من ثورة إلى عدالة تصالحية -1-

ماذا يتعمدون تغييب جوهر الثورة السورية؟

منذ الأيام الأولى للثورة السورية تعمد “النظام” السوري طمس حقيقتها وإظهارها على نحو مغاير تماماً لها، فهو يصورها تارة تحركات لعصابات مأجورة، وتارة أخرى محاولة لمتطرفين إرهابيين زعزعة “النظام” المستقر في سوريا، ومرة أخرى مؤامرة كونية تستهدف نظاماً مقاوماً ممانعاً يقف في وجه الهيمنة الأميركية، إلى آخر هذه الروايات التي تحاول طمس جوهر ما يحصل في سوريا والذي هو باختصار شديد ثورة شعب من أجل حياة حرة كريمة.

لم يكن “النظام” وحده من اشتغل على تغييب جوهر الثورة السورية، فقد ساندته مكنة إعلامية ضخمة، وأبواق إعلامية وأحزاب سياسية ودول، لكن الأدهى من هذا كله هو مشاركة أطراف حسبت على هذه الثورة في هذا التشويه، وفي طمس وجهها الحقيقي، وها نحن بعد سنوات عشر نقف أمام مهزلة اختزال هذه الثورة إلى تدقيق مصطلح ما، أو المحاصصة على منصب لن يفيد السوريين بشيء.

لعله من الضروري جدا أن نستحضر مقدمات هذه الثورة، وأسبابها، فلن يخرج السوريون من مأساتهم بخدعة مصطلحات ولا بتغيير واجهات، ولن تقوم سوريا مالم تعالج الأسباب والمقدمات التي أدت إلى انفجار هذه الثورة.

ليس من السهل أبداً تناول المقدّمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة للثورة السوريّة، بسبب تعقّد وتداخل هذه المقدّمات بين الراهن والتاريخيّ، وبسبب عمق وقوة تشابك السياسي والجغرافي في الحالة السورية، وبسبب تفرّد بنية الدولة السوريّة، والتي يجب دراستها كمثال بالغ الخصوصية في حال أردنا اعتماد المعايير والمصطلحات المتداولة في علوم السياسة والاجتماع، وأخيرا بسبب صعوبة توصيف النظام الحاكم في سوريا، فهو توليفة غريبة من الديكتاتورية والشمولية والنازية والمافياوية الخ.

سوريا الحاليّة جغرافيّاً، هي نتاج اتّفاق “سايكس بيكو” الشهير الذي بُني على أنقاض الإمبراطوريّة العثمانيّة، ومصالح الدول الاستعماريّة وقتها

يمكن الاكتفاء بقراءة سريعة لمرحلة حكم عائلة الأسد، والتي شكّلت مرحلة الأب فيها العمود الفقريّ، وهي التي رسمت المسار الأساسي لمرحلة الابن، لكن لابد من إلقاء نظرة سريعة على الفترة التي سبقت هذه المرحلة.

يعرف الجميع أنّ سوريا الحاليّة جغرافيّاً، هي نتاج اتّفاق “سايكس بيكو” الشهير الذي بُني على أنقاض الإمبراطوريّة العثمانيّة، ومصالح الدول الاستعماريّة وقتها. هذا الاتّفاق الذي رسم مصير منطقتنا، والتي كانت طوال قرون أربعة قبله، خاضعة لسيطرة السلطنة العثمانيّة.

ساهمت الفترة الممتدّة من 1920 وحتّى 1946، وهي فترة الانتداب الفرنسيّ على سوريا، والتي تعرّضت فيها سوريا لتغيّرات جغرافية مهمة جداً (انفصال لبنان، واقتطاع لواء إسكندرون)، والتقسيم لدويلات على أسس طائفيّة- وإن كان لفترة من الزمن- في الحدث السوري الراهن، فقد ولّد الاحتلال الفرنسي محددات سياسية واصطفافات لاتزال ماثلة في أذهان السوريين وتفعل فيهم.

في مرحلة الانتداب الفرنسي كان من الطبيعيّ لمجتمع بالغ التنوّع، خرج لتوّه من احتلال طويل، ولايزال تحت الانتداب، أن تتعقد بالنسبة له تعريفات الهوية السورية، وأن تطغي تأثيرات الحاضر المعاش حينها على السوريين، فهو مجتمع متعدّد الهويّات الفرعيّة القوميّة، ومتعدّد الهويّات الطائفيّة والإثنيّة أيضاً، أضف إلى ذلك تعدّد الأنماط الاجتماعيّة والاقتصاديّة فيه، ويصارع احتلالا عسكريا مباشرا على أرضه.

دفع وجود الانتداب الفرنسيّ السوريّين إلى تعزيز بعض أوجه الهويّة على حساب أوجه أخرى، وهذا التعزيز جاء نتيجة الصراع المعاش في تلك الفترة، ولم تكن هذه الهويّة المتبنّاة تعكس البنية الدقيقة أو الحاجة العميقة للمجتمع، إذ ساهم وجود الانتداب الفرنسيّ (الغربي المسيحيّ) في تعزيز طرح الهويّة (العربيّة الإسلاميّة) لهذا المجتمع، كردّ فعل، وكفعل مقاومة ضد الاحتلال. يضاف إلى ذلك، ما كانت تمارسه السياسات الاستعماريّة الغربيّة، وخصوصاً فرنسا وبريطانيا (المسيحيّتين) ضدّ شعوب عربيّة ومسلمة أخرى، وفي مقدّمتها ما جاء به “وعد بلفور” بإقامة وطن قوميّ لليهود في فلسطين، ليعطي للهويّة العربيّة والاسلاميّة الصدارة في تكريس هويّة هذا المجتمع، رغم تنوّعه الكبير، ورغم عدم قدرة هذه الهوية على تمثيل حقيقة المجتمع السوري.

بعد خروج فرنسا من سوريا في نيسان 1946، بدأ السوريّون يشتغلون على محدّدات ومعالم دولتهم التي تتشكّل حديثاً، محدّدات دستورية وسياسيّة وثقافيّة واقتصاديّة.

 وكان العالم حينها خارجاً لتوّه من الحرب العالمية الثانية، هذه الحرب التي أرست نتائجها نظاما عالميّا، لايزال قائما حتّى وقتنا الحاضر، وإن كانت تغيّرات عميقة عصفت، ولاتزال تعصف به، بدءاً من انهيار الاتّحاد السوفيتّي، وصولاً إلى الأزمات الماليّة العميقة، ومروراً بكلّ إرهاصات هذه التبدلات، كنشوء مراكز للإرهاب العالميّ، وانتشار التطرّف، ليس فقط في المجتمعات المتخلّفة، بل وفي المجتمعات المتطوّرة أيضاً، أضف إلى ذلك التطوّر العاصف الذي شهدته البشريّة في مجالات التكنولوجيا والاتّصال، وباقي العلوم.

في تلك الفترة كان الاستقطاب الحاصل في النظام العالميّ الجديد يؤثر بشكل كبير على قراءة وبنية وبرامج الأحزاب السياسيّة في العالم كله ومن ضمنه سوريا، وكانت السمة الغالبة على الأحزاب في منطقتنا العربية هي طغيان الإيديولوجيا، والأفكار القادمة من الخارج دون الاهتمام والبحث، بحقيقة حاجة المجتمعات ومتطلّبات نموّها وتطوّرها.

ساهم استقلال بعض الدول العربية بفعل مقاومتها للاحتلال، في تعزيز دور المؤسسة العسكرية داخل المجتمع، وجاءت هزيمة الجيوش العربيّة في فلسطين  1948 – التي حَمَّلَ العسكرُ مسؤوليتها للحكام العرب يومها  – لتساعد على اجتياح العسكر للسياسة، هذا الاجتياح الذي سيؤدّي لاحقاً، وحتّى اللحظة، إلى سيطرة العسكر على الدولة أوّلاً، ومن ثمّ سيطرتهم على الجوانب الأخرى للمجتمع، سواء الاقتصاديّة أو السياسيّة أو الثقافيّة وحتّى الدينيّة، مع ما يعنيه هذا، من قطع للمسار الطبيعيّ لتطوّر المجتمع، وزجّه داخل مسار قسريّ غير قابل للتطور، وبالتالي فإن انهياره سيكون محتوما، – بغضّ النظر عن المدة الزمنيّة التي يمكن أن يعيشها-، وقد يتفاوت حجم هذا الانهيار وتداعياته وفقاً لخصوصيّة كلّ مجتمع ولخصوصيّة صيغة إدارة الدولة والمجتمع خلال هذه الفترة.

بعد انقلاب حافظ الأسد العسكري وبعد أن استتب الأمر له، عمل على تشكيل نظام حكم هجين يصعب على المصطلحات السياسية المتداولة توصيفه

منذ الاستقلال 1946 وحتّى قدوم الوحدة مع مصر 1958، كان الصراع على أشدّه في سوريا، بين المجتمع المدنيّ والأحزاب السياسيّة من جهة وبين المؤسسة العسكرية، على السلطة، وجاءت الوحدة مع مصر (جمال عبد الناصر) لتحسم هذا الصراع لصالح العسكر، وعلى الرغم من انهيار الوحدة وعودة السلطة في سوريا إلى وجهها المدنيّ، إلّا أنّ هذه العودة كانت قصيرة ومتعثّرة، وشهدت عدة محاولات عسكرية لتسلم السلطة، إلى أن استطاع تآلف مجموعة ضبّاط منتمين إلى أحزاب سياسيّة من إنهاء الحكم المدنيّ، وسيطرة حكم العسكر على سوريا منذ تلك الفترة وحتى وقتنا الحاضر، وعليه فإن البنية العميقة للدولة، والتي لاتزال تحكم سوريا حتى اللحظة هي نتاج المؤسسة العسكرية.

بعد انقلاب حافظ الأسد العسكري وبعد أن استتب الأمر له، عمل على تشكيل نظام حكم هجين يصعب على المصطلحات السياسية المتداولة توصيفه، فهو نظام “اشتراكي” ورأسمالي، و”مقاوم” ومهادن، و”علماني” وديني، و”ديمقراطي” وديكتاتوري، وهو نظام فاشي، وشمولي. إلخ، نظام عشائري وقبلي وطائفي وقومي ويساري ويميني.

هذه التوليفة الغريبة لنظام الحكم في سوريا لاتزال مستمرة طيلة نصف قرن، واستطاعت أن تبتدع ظاهرة توريث السلطة رغم أن النظام جمهوري، فكيف أدار الوريث هذا النظام الهجين، وكيف عجّلت إدارته بانهيار هذا النظام، والذي كانت لحظة انهياره قادمة لا محالة؟

تلفزيون سوريا