في الأيام الأخيرة، ضجت صفحات السوريين على مواقع التواصل، بدعوات للتضامن مع الفنان السوري عباس النوري، عقب هجوم تعرض له إثر تصريحاته حول الحريات المسلوبة وخيبة الشعب السوري في مقابلة بالصوت والصورة، بثتها إذاعة “المدينة إف إم” قبل أن تحذفها ليلة السبت الماضي، وتعلن عن استضافته بمقابلة أخرى، أول من أمس الأحد.
دعوات التضامن مع عباس النوري، جاءت بطلب من الكاتبة عنود الخالد، زوجة النوري، إذ نشرت عبر صفحتها على “فيسبوك” صورة لزوجها وعلقت: “لكلّ الشرفاء ومحبي سورية والحريصين على سورية، الرجاء تفعيل هاشتاغ #متضامن_مع_عباس_النوري”؛ ليوحي ذلك بأنّ خطراً محتماً واقعاً عليه، كي تتهافت أصوات المتضامنين مع النوري من مؤيدين ومعارضين؛ الأمر الذي أدى إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لتلميع صورة النظام، تمثلت باستبدال المقابلة القديمة، بواحدة جديدة، الهدف منها بلا شك هو الاعتذار.
المقابلة الجديدة تم بثها تحت عنوان “مباشر: عباس النوري في المختار مع باسل محرز” وُزعت على مقطعي فيديو، مدة كلّ منهما 20 دقيقة؛ لتوحي هذه المعطيات بأنّ القناة ترغب بإيصال المقابلة بشفافية مطلقة، عبر تقنيات البث المباشر. لكن، ما نفع اصطناع الشفافية بعد قيام “المدينة إف إم” بحذف المقابلة الأولى، في الوقت الذي يدرك فيه الجميع أن عبّاس النوري قد عاد إلى المنصة ذاتها بدافع الخوف، وتلبيةً لقرار جاء بصيغة التهديد، ليرغمه على التراجع عن تصريحاته السابقة؟
من خلال متابعة المقابلة، نكتشف أنّ “المدينة إف إم” لا تملك الثقة الكافية بعباس النوري لإجراء هذه التمثيلية معه، إذ نلاحظ أنّ المقابلة مسجلة، وقد تم تصويرها بأكثر من كاميرا ليسهل ذلك عمليات المونتاج، الذي فشل بشكل ذريع في ترميم إحدى اللحظات، عند الدقيقة 10:36 من الجزء الثاني في المقابلة، حيث بدا التقطيع واضحاً للغاية، عند حذف ما بدأ عباس النوري بذكره عن إيمانه بأنّ الفوارق بين المؤيدين للنظام والمعارضين له قد بدأت تتلاشى.
يحاول الإعلامي باسل محرز، أن يبرر سبب استضافة عباس النوري في البرنامج ذاته للمرة الثانية في أقل من أسبوع، بالحديث عن مشكلة مواقع التواصل التي تجتزئ التصريحات وتتلاعب بها لتحرّف مسارها، ليشير إلى أنّ حالة الهيجان التي يعيشها الشارع السوري بعد المقابلة الأولى، سببها تفسير الكلام في غير سياقه، وأنّ السبب من إعادة المقابلة هو إيضاح بعض النقاط التي أثارت الجدل! وإذا ما سلمنا جدلاً بادعاءات محرز، فما تبريره لحذف المقابلة السابقة؟ هل وجودها كاملاً على مواقع التواصل يعتبر أيضاً اجتزاء وتلاعباً للتحريف عن السياق؟
برّأ نظام البعث من الانتقادات التي وجهها له باسم “حكم العسكر”
تجدر بنا الإشارة هنا إلى أنّ الإعلامي باسل محرز هو أحد الإعلاميين القلائل في صف النظام السوري، ممن يعرفون كيف يديرون الحوار الصحافي للوصول إلى نتائج مغايرة عن الكليشيهات والشعارات المؤدلجة التي حفظها الجميع، وقد حاز شهرة واسعة في الأعوام الأخيرة بسبب أسلوبه، الذي خرج به بتصريحات مثيرة للجدل من الفنانين الذين استضافهم. لكنّه في المقابلة الجديدة، يصدمنا بالتخلي الكامل عن هويته وارتدائه لشخصية المحقق، الذي قام باستجواب عباس النوري على مدار 40 دقيقة.
على مدار المقابلة، اكتفى محرز بالإشارة إلى التصريحات التي لا ترضى حكومة النظام عنها، ليحقق مع ضيفه ويسأله: “ما المقصود؟”، ليتراجع عباس النوري عن تصريحاته واحداً تلو الآخر، ليبرئ نظام البعث من الانتقادات التي وجهها له باسم “حكم العسكر”، ويلقي بعض المسؤولية على الشعب في مشاكل الحريات والديمقراطية والأحوال المعيشية، بعد إصراره الكامل في المقابلة الماضية على إلقاء اللوم على الدولة. وسيتراجع عن اتهاماته الخطيرة للمسؤولين وإدارة مصرف دمشق المركزي، ويدعي عدم فهمه للوضع الراهن في ما يخص انهيار العملة، ويلجأ لخطاب إعلام النظام ومبرراته المتمثلة بالعقوبات وقانون قيصر، ليخالف ما ذكره قبل أيام حول سرقة المسؤولين لأموال الشعب.
وعلى عكس ما يجري في العادة ببرنامج “المختار”، لم يتصل محرز بمسؤول حكومي لمواجهته بالحقيقة ومساءلته، وإنما اتصل بالمسؤول عن البنك المركزي، ليعطيه المساحة لإضافة مبررات واهية، ربطت بين “قذائف الإرهابيين” ومعاناة البنك المركزي التي أدت لانهيار الليرة السورية.
هكذا سارت دقائق المقابلة وفقاً للسيناريو المكتوب، ليبدأ بالحديث عن سوء الفهم وقلة دراية الناس ووجود بعض النوايا الخبيثة، التي أدت إلى ترميم عباس النوري بعض تصريحاته السابقة بتعويمها، واعتذاره الصريح عن تصريحات أخرى.
لكنّ “جلسة التحقيق” في “فرع المخابرات” بدت أثقل وأطول من اللازم، ما جعل زمام الأمور تنفلت في المقاطع الأخيرة، التي تمسك فيها عباس النوري ببعض التصريحات التي تحفظ ماء وجهه أمام الجمهور، ليصر على إنكار حالة الانتصار الوهمية التي يكرسها الإعلام رغم كل المحاولات التي بذلها محرز لإعادة ضبط الأمور، التي لن تعود لسياقها إلا عند ذكر كلمة السر، حين يقول محرز: “وصلنا إلى النهاية”، ليعود النوري بعدها للسيناريو المحفوظ، ويوجه تحية للجندي السوري الموجود على حدود إدلب؛ تحية تحمل في طياتها جرعة عالية من العبثية، إذا ما ربطناها بتصريحاته السابقة عن فشل الجيش تاريخياً بتحقيق المرجو منه، وهنا كان يقصد تحرير فلسطين، التي كانت وستبقى شعاراً غير جاد يرفعه حزب البعث، ليكون أفيون الشعب الذي يجب أن يحمل قضية وطنية.