عدنان علي –
الأوضاع المعيشية الصعبة التي يرزح تحتها اليوم معظم المتبقين داخل سوريا، وخاصة في مناطق سيطرة نظام الأسد، قد تقود إلى احتمالين، يحملان بشرى للخلاص، وهما: انفجار الوضع في وجه النظام على شكل تمرد جماعي يشارك فيه حتى الموالون أو بعضهم تحت ضغط الجوع، أو هجرة واسعة إلى خارج البلاد، نحو أوروبا، وهو ما قد يدفع دولها إلى التدخل بجدية أكبر لحل الأزمة في سوريا.
وطبعا، يبقى الاحتمال الثالث، وهو مزيد من تكيف الناس مع الأوضاع السيئة وحتى الأكثر سوءا، بالتزامن مع محاولات النظام لامتصاص غضب الناس عبر بعض الإجراءات الترقيعية والإسعافية كما يفعل منذ سنوات.
ورغم ما يحمله الاحتمالان الأول والثاني من خيال قد يصل إلى حد الشطط الذهني بالنسبة للبعض، فلا بأس من محاولة تلمس مدى واقعية كل منهما، في المدى المنظور على الأقل. وبالنسبة للاحتمال الأول، أي انفجار الأوضاع، فثمة تذمر واسع لا يخفى على أحد من التدهور المريع لمستوى المعيشة وفقدان الخدمات الأساسية التي تتوفر لأكثر شعوب العالم فقرا وبعدا عن الحضارة مثل الكهرباء والتدفئة والوقود، وهو ما اضطر معظم الناس إلى إعادة اكتشاف حياة ما قبل الحضارة، واستخدام الوسائل البدائية التي كانت سائدة في سبعينات وستينات القرن الماضي، وربما قبل ذلك، لكن حتى في تلك الحقب لم تكن الأزمات شاملة لكل شيء. ومع عدم توفر الكهرباء في عموم البلاد آنذاك، كان الوقود متوفرا، وكذلك المواد الغذائية الأساسية بأسعار تقع في متناول أغلب فئات المجتمع. أما اليوم، يتزامن الغياب المديد للكهرباء (نصف ساعة في بعض المناطق خلال الـ 24 ساعة)، لا تتوفر الوسائل الأخرى التي قد تساعد على التخفيف من غياب الكهرباء، حيث يتعذر مثلا إشعال المصابيح التي كانت تعمل على الغاز (اللكس) أو الكاز (البلورة) بسبب عدم توفر المادتين اليوم، وحتى بوابير الكاز لا يمكن الاستعانة بها، وهو ما جعل الناس تعاني في تأمين أبسط الأشياء مثل الاستحمام، بسبب عدم وجود طريقة لتسخين المياه مع غياب الكهرباء والوقود، وهو ما حدا ببعض الناس إلى فتح صفحاتهم على الفيس بوك لتقبل التهاني بعد تمكنهم بطريقة ما من أخذ حمام ساخن.
هذا التذمر اليومي الذي يعم مجمل فئات السكان، وعبر عنه حتى الفنانون الموجودون في مناطق النظام عبر صفحاتهم الشخصية، قد لا يكون مرشحاً للتطور إلى ما هو أبعد من ذلك، إلا إذا ارتكب النظام حماقات كبيرة في تعاطيه مع آخر سلاح يملكه الناس في التنفيس عن سخطهم مما آلت إليه أمورهم، وهو سلاح التعبير عن الامتعاض، كأن يمرر القانون المحال حاليا إلى ما يسمى “مجلس الشعب” باسم “قانون الجرائم الإلكترونية” والذي وصفه كثير من المتابعين من بين أوساط النظام نفسه بأنه مخصص لتكميم الأفواه، ومنع أي انتقاد للنظام وحتى موظفيه الصغار، تحت طائلة السجن ودفع غرامات كبيرة، بدعوى “وهن نفسية الأمة”، أو “إثارة الرأي العام” أو “تحقير موظف على رأس عمله” ولو عبر رسالة واتساب بين شخصين.
أوروبا بوصفها المتضرر الرئيسي من حدوث مثل هذه الموجة، غير جاهزة لطرح مبادرات خلاقة، أو القيام بجهد جماعي لدفع الحل في الأزمة السورية
أما الاحتمال الثاني، وهو تحرك أوروبي ودولي للضغط على الأطراف المعنية، وفي مقدمتها النظام وروسيا للوصول إلى حلول سياسية في إطار الآليات الحالية في جنيف وأستانا، أو خارجها، بغية تفادي موجة هجرة جديدة من سوريا قوامها ملايين الفارين من الجوع، فهو غير وارد في المدى المنظور على الأقل، ذلك أن أوروبا بوصفها المتضرر الرئيسي من حدوث مثل هذه الموجة، غير جاهزة لطرح مبادرات خلاقة، أو القيام بجهد جماعي لدفع الحل في الأزمة السورية، وهي كما حالها منذ سنوات، تنتظر الحلول التي تتوافق عليها القوى المنخرطة في هذه الأزمة مثل روسيا والولايات المتحدة وتركيا وإيران، وتكتفي حتى الآن بتقديم بعض المبالغ المالية لتسكين أزمة اللاجئين في سوريا ودول الجوار، من دون أن يتمخض خيالها عن حلول أبعد من ذلك، تعالج جوهر الأزمة، وليس نتائجها.
ويبقى الاحتمال الثالث، وهو تواصل تأقلم الناس وتكيفهم مع الوضع السيئ وحتى الأسوأ، خاصة أنه يسكن في وعي أغلبهم أن ما آلت إليه أحوالهم اليوم كان بفعل التمرد على النظام، وأن أحوالهم قبل الثورة عام 2011 كانت أفضل بما لا يقارن مع أحوالهم اليوم، وأي تمرد جديد، قد يقودهم إلى مرحلة أسوأ بكثير، وقد خبروا النظام، وعرفوا أنه لا يتوانى عن استخدام كل ما يمكنه من أساليب بطش وترهيب بغض النظر عن نتائج ذلك.
والواقع أن السيناريو الأكثر واقعية قد يكون مزيجاً من الاحتمالات الثلاثة السابقة، أي تواصل عمليات الهجرة والرحيل لمن استطاع إليها سبيلا، مع تحرك دولي ولو محدوداً، بما في ذلك انفتاح بعض دول المنطقة على النظام، ما قد يخفف من حدة بعض الأزمات، ويوفر بعض المرونة للنظام في تعامله مع هذه الأزمات، إضافة إلى مزيد من اعتياد الناس على الأوضاع السيئة، ولجوئهم إلى الحلول الخاصة لكل منهم (الخلاص الفردي وليس الجماعي) من خلال قنوات الدعم التي تمد معظم الأسر في سوريا اليوم ببعض المعونة من أبنائهم المهجرين في الخارج، وتكاد هذه القنوات تكون الرافعة شبه الوحيدة لمعظم الأسر السورية اليوم، حيث راتب الموظف يكفي فقط لشراء أقل من نصف تنكة زيت زيتون أو بطارية واحدة لشحن الهواتف المحمولة.
تلقزيون سوريا