عذر أقبح من ذنب

“إنهم جهاديون وأنا مسيحي” بهذا برر المتهم الذي مثل أمام القضاء الألماني سلوكه الوحشي الإجرامي الذي مارسه في أثناء عمله في مشفى حمص العسكري تجاه الثوار والمعتقلين الذين ساقهم الأمن إليها في بداية اندلاع الثورة السورية. 

لا أعرف ما الذي كان يفكر فيه وهو يدلي بهذه الجملة معتبراً أنها كافية لتكون دفاعاً أمام القانون، أو عذراً مُحِلّاً مما ارتكبته يداه من تعذيب ممنهج استغل فيها مهنته في القتل بدلاً من العلاج.

على بساطة الجملة التي استخدمها القائل إلا أنها كاشفة لواقع أليم عاشه ويعيشه المجتمع السوري الذي بات واضحاً فيه عمق الشرخ الحاصل ومدى التفكك الذي يعاني منه.

فالعقل الذي يمكن أن يستخدم مثل هذه الذرائع على أنها مبررات مقبولة، لا يمكن إلا أن يحتمل احتمالين لا ثالث لهما:

أولهما: أن يكون مؤمناً حقيقة بتلك الفكرة معتقداً بأن انتماءه إلى أقلية يسمح له بالانقضاض والتنكيل بمن يخالفه ذلك الانتماء، مستفيداً من مظلومية مفترضة يتاجر فيها فتمنحه الحق في ممارسة أساليب تعذيب وحشية ضد من يخالفه الرأي والانتماء، لأنه قد يشكل خطراً على وجوده، ولا يمكن في مثل هذه الأحوال نفي فكرة أنه لا يختلف في جوهره عن الإرهابيين الذين يحاربهم وفق زعمه، وهذا ما يوحي مع الأسف بكم الإجرام الموجود في المجتمع مهما حاولنا إنكاره والتنصل منه.

الاحتمال الثاني: أن يكون الفاعل أو كل من يعتقد اعتقاده مغيباً إلى درجة أن يصدق خطاب السلطة من دون محاكمة وتفكّر، ليضع شركاءه في الوطن موضع العدوّ ويعقد اتفاقاً مع السلطة المستبدة يصبح فيه ذراعها العسكري في تنفيذ أحكامها.

درس المدعو الطب، وأقسم أن يكون أهلاً لعلاج المرضى وتخليص البشرية من أمراض وعلل عدة ولم يلتفت إلى أنه في داخله يحمل من العلل والمشكلات ما يجعله خطراً حقيقياً يفوق من يسوق الذرائع والمبررات لقتلهم ومحاولات التخلص منهم.

قبل مدة قريبة جداً حاول المدعى عليه أنور رسلان أن يبرر جرائمه بعجزه وعدم قدرته على مخالفة أوامر السلطة، وادعى أنه حاول قدر المستطاع أن يكون عوناً ودعماً للثورة والثوار لكنه لم يتجرأ على أكثر من ذلك فاختار خلاصه الفردي على حساب تضحيته بإبادة بقية السوريين.

ليست المشكلة فقط بأنهم يسوقون تلك المبررات والأعذار ليقنعوا العالم بأحقية حجتهم ليتملصوا من العقاب، المشكلة الحقيقية تكمن في أنهم صدقوا أنفسهم تماماً بأنهم على حق وأن ما فعلوه كان هو الشكل الأنسب والأفضل.

أقبح من هذا وذاك أنه ما زال كثيرون ممن يعتبرون أبناء وطن واحد يصدقون هذه الحجج، يصدقون الأفكار السامة التي نشرها النظام وأعوانه حول الثورة والثوار في بداية الثورة من أجل تشويهها.

إن الأمر الأصعب الذي كان نقطة ضعف حقيقية في الثورة، أنها كانت عاطفية أكثر مما هي عقلانية فكانت الأمنيات بوحدة السوريين واتفاقهم على إزالة الاستبداد، لا تشبه حقيقة الأمر بأن المجتمع منقسم على نفسه، وجاهز للاقتتال في حال اشتعلت أتون الحرب في أي لحظة.

 من هذا المنطلق نفسه رفض كثيرون الانضمام إلى الثورة السورية، متغاضين عن سوية تعليمهم أو ثقافتهم، لقد كان عامل الاختلاف الطائفي أساسياً في وقوف السوريين في وجه بعضهم بعضاً مهما تمت التعمية والتعتيم على ذلك، وما زال ذلك الأمر واضحاً حتى اليوم إذ يتم من خلاله تقييم الأشخاص وإعطاؤهم شهادات حسن سلوك في الثورة أو في الولاء للنظام.

لطالما قيّم النظام ولاءات السوريين بهذه الطريقة، بطريقة تصنفهم فتقصي بعضهم وتقرب بعضهم الآخر بناء على ضمان ولائه وقربه من السلطة، ربما آن الأوان أن نكاشف أنفسنا على الأقل بأن الثورة في كثير من فعالياتها وحتى في أفكار وتصرفات بعض الأشخاص العاديين من أهلها ومؤيديها وقعت في الفخ نفسه، وكان ذلك الأمر الذي استغله العالم أجمعه لتقزيم الثورة وسحق طلباتها وغض الطرف عن كل الموت الذي حاق بالسوريين عبر عقود.

التصريح الذي أدلى به الطبيب المتهم اختصر ألماً كبيراً عاشته سوريا وما زالت، ألماً ناتجاً عن مرض عضال تفشى فيها لا خلال سنوات الثورة فحسب، بل منذ الاحتلال الفرنسي وحتى قبل ذلك، وما كان الاستبداد الذي احتل البلاد فيما بعد إلا أداة تنفذ بقية الأجندة المخططة لبلادنا المنكوبة ليستكمل العالم حالات الفصل بين أبناء الشعب الواحد.

لقد كانت الفرقة الطائفية ومعاداة الطوائف المختلفة بعضها لبعضها الآخر حصان طروادة الذي مكّن العالم من هزيمة قضايانا مراراً وتكراراً، أين كان وعينا حين فعلوا لنا كل ذلك؟ وهل يعقل ألا يوجد صوت للعقل في ظل هذه الأصوات المنحازة إلى انتمائها الطائفي، لا بد أنه كان موجوداً، ولكنه لم يكن ليسمع اليوم في ظل الغوغائية السائدة، ولا يستطيع أحد منا أن يعرف إجابة أجدادنا الحقيقية عن ذلك بعد كل هذه العقود، لكننا نستطيع أن نستشف واقعهم من خلال تصرفاتنا جميعاً اليوم، لأننا نعيد تكرار التاريخ ونمنع أي انتماء من إلغاء التحيز الطائفي أو تنحيته لا في سوريا فقط وإنما في دول المنطقة كلها.

تلفزيون سوريا