لم ينتظر “المجلس الإسلامي السوري” المعارض طويلاً قبل أن يتحرك لمحاولة ملء الفراغ الذي تركه النظام السوري في المؤسسة الدينية العريقة في البلاد عندما ألغى منصب المفتي العام للدولة، وهو ما نُظر إليه على أنه خطوة في طريق تبديل هوية سورية الدينية والمذهبية. وفي خطوة توقعها كثيرون، انتخب المجلس، الذي يضم علماء معارضين للنظام، ومقره إسطنبول، بالإجماع، مساء أول من أمس السبت، الشيخ أسامة الرفاعي مفتياً عاماً للجمهورية العربية السورية. ودعا المتحدث باسم المجلس، مطيع البطين، السوريين إلى الالتفاف حول “مرجعيتهم الدينية الموحدة”، مؤكداً في كلمة مصورة له أن لـ”مقام الإفتاء مكانة مرموقة في تاريخ الحضارة الإسلامية، لم يجرؤ على المساس بها أحد حتى تحكمت هذه العصابة الطائفية في سورية، ففرغته من مضمونه وجعلته تعييناً بعدما كان انتخاباً لمن يستحق”. وتابع: “اكتملت حلقات التآمر على هذا المنصب حتى قامت هذه العصابة بإلغائه بالكلية”.
النظام السوري نقل صلاحيات منصب المفتي العام للجمهورية إلى مجلس فقهي
ولاقى انتخاب الشيخ أسامة الرفاعي مفتياً عاماً لسورية ترحيباً واسعاً في أوساط المعارضة والفعاليات المدنية والأهلية السورية. ورأى رئيس الائتلاف الوطني السوري المعارض، سالم المسلط، أنه بانتخاب الشيخ أسامة الرفاعي مفتياً عاماً لسورية “يعود لهذا المنصب ثقله وأهميته وفاعليته، التي كانت قبل استيلاء النظام المجرم على الحكم في سورية، وتجييره المنصب لترويج نظامه، ومحاولته محو الهوية الثقافية والتاريخية لسورية، من خلال إلغاء المنصب في الحاضر”. من جهته، اعتبر رئيس الحكومة السورية المؤقتة عبد الرحمن مصطفى اختيار الرفاعي مفتياً عاماً لسورية “تأكيداً جديداً للعالم أجمع على أن الشعب السوري ماضٍ في ثورته، وأنه لن يستسلم لمحاولات النظام المجرم في التغيير الديمغرافي والمذهبي الذي يعمل على إحداثه في سورية”. كذلك قدّم المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين في سورية محمد حكمت وليد التهنئة للشيخ الرفاعي، عبر “تويتر”، فيما شدّد الرائد يوسف الحمود، المتحدث باسم “الجيش الوطني” السوري المعارض، على أن “الإفتاء واتخاذ المرجعية لا يتطلب أن يكون المفتي وطالب الفتوى في حدود جغرافية واحدة”. وكان الباحث الإسلامي معتز الخطيب قد اعتبر، في حديث مع “العربي الجديد”، انتخاب الشيخ الرفاعي “خطوة ذكية من المجلس السوري”، مضيفاً أن المجلس “استثمر فرصة فراغ خلّفه النظام، فملأه، وبطريقة الانتخاب”.
وكان النظام السوري قد نقل منذ أيام صلاحيات منصب المفتي العام للجمهورية إلى مجلس فقهي أنشأه في عام 2018، يضم رجال دين من الأديان والمذاهب والطوائف المختلفة، وهو ما اعتُبر من قبل شريحة واسعة من السوريين تعدياً صريحاً على الهوية الدينية والمذهبية في دولة يشكل المسلمون السنّة أكثر من 80 في المائة من عديد سكّانها.
وبعد بدء الثورة السورية في عام 2011، انشطرت المؤسسة الدينية في سورية إلى نصفين، الأول ضم عدداً من العلماء التقليديين الذين اصطفوا إلى جانب نظام بشار الأسد، يرأسهم المفتي السابق أحمد حسون، والذين برروا الإجرام الذي مارسته قوات النظام والأجهزة الأمنية بحق السوريين المطالبين بالتغيير. بينما ضم الثاني علماء من مختلف المحافظات السورية، جهروا بانتقاد النظام ومعارضته على منابر المساجد في أيام الجُمع، وأبرزهم شيخ القراء في دمشق كريّم راجح (95 عاماً)، والشيخ أسامة الرفاعي وشقيقه سارية، والداعية المعروف محمد راتب النابلسي، وسواهم.
وفي عام 2014، أسس العلماء المعارضون “المجلس الإسلامي السوري”، في مدينة إسطنبول التركية، وقبله بعامين، أُسسوا في العاصمة القطرية الدوحة “رابطة علماء الشام”، بهدف “تشكيل مرجعية دينية وشرعية تضبط ممارسات الثوار في الميدان”. من جهته، أسس النظام السوري في 2012 ما سمّاه “اتحاد علماء بلاد الشام”، لخلق مرجعية دينية لمواجهة الثورة التي كانت حينذاك في ذروة السلمية. وفي عام 2018 أسس النظام “المجلس العلمي الفقهي” وفيه أعضاء من الأكثرية السنّية، ومن مراجع الشيعة الإماميّة، ومشايخ العقل الدروز، ومشايخ العلويين، والإسماعيليين، ومن البطاركة المسيحيين. وظلّ هذا المجلس بلا تأثير واضح ومباشر على المؤسسة الدينية في سورية، حتى نقل إليه الأسد منذ أيام صلاحيات المفتي العام، وهو ما أحدث بلبلة في سورية، خصوصاً أن كل المعطيات تؤكد وجود دور إيراني في هذا المجلس لتمييع الهوية السورية من خلال اعتبار الأكثرية السنّية طائفة من بين عدة طوائف في سورية.
تؤكد كل المعطيات وجود دور إيراني في مجلس العلمي الفقهي، لتمييع الهوية السورية
ومنذ استيلاء حافظ الأسد على السلطة في سورية بانقلاب في عام 1970، اعتمد على المؤسسة الدينية في تدعيم نظامه، خصوصاً من قبل المفتي العام آنذاك أحمد كفتارو الذي شغل منصب مفتي سورية منذ وصول البعث للسلطة إلى حين وفاته، ولعب درواً محورياً في تثبيت الأسد الذي لقي رفضاً من علماء معروفين، خصوصاً في العاصمة دمشق. وصنع النظام طبقة من العلماء الذين ساندوه في التحكم الكامل بالمؤسسة الدينية العريقة في سورية، وهمّش طبقة العلماء التقليديين، خصوصاً في مدينة دمشق، حتى لم يعد لهم دور مؤثر في الرأي العام السوري. واضطر عدد منهم للهجرة خارج البلاد، خصوصاً مع اندلاع المواجهات مع حركة “الإخوان المسلمين” والتي استمرت سنوات عدة، وانتهت بمذبحة فبراير/ شباط 1982 في مدينة حماة وسط سورية. وفي عام 2005 عيّن بشار الأسد مفتياً من خارج “النخبة الدمشقية” والطبقة التقليدية من العلماء المعروفين، وهو أحمد حسون، وهو ما عُدّ في حينه انقلاباً في نظرة النظام لأهمية منصب المفتي في البلاد.
وشرح مدير “مؤسسة الذاكرة السورية”، عبد الرحمن الحاج، في حديث لـ”العربي الجديد”، أنه “بعد الانقلاب الذي قام به حزب البعث في عام 1963، تم إلحاق منصب المفتي بالسلطة السياسية وأصبح بالتعيين بمرسوم رئاسي”، ما أدى إلى إلغاء استقلاله تماماً. وأشار الحاج إلى أن الأسد الأب “عمل على مأسسة دائرة الافتاء وإتمام إلحاقها بالسلطة، وبدأ يتدخّل حتى في المؤسسات الكنسية حيث لا يتم التعيين إلا بموافقة السلطة السياسية والأمنية”. وأضاف أنه “بالنسبة للمؤسسات الدينية الأخرى، وخصوصاً السنّية، فقد حافظ الأسد على توازن في العلاقة بين الضغط عليها ومراقبتها لتلبية احتياجاته السياسية الداخلية والخارجية وبين العلاقة الشكلية التي تظهر احتراماً للمؤسسات الدينية ورموزها”.
ولفت مدير “مؤسسة الذاكرة السورية” إلى أن بشار الأسد “نظر إلى المؤسسة الدينية من منظور أمني صرف، وظيفتها ضبط المجال الديني وإعادة تشكيله ليلبي احتياجات السلطة من دون تقديم أي مقابل، وذلك بالاعتماد على القبضة الأمنية”. وبيّن أن بشار الأسد “أفسح المجال أمام النشاط التبشيري الشيعي الإيراني بعد عام 2005″، مضيفاً أن الأخير “لم يكن يهتم بغضب المؤسسة الدينية لأن قوته الأمنية تخمد أي احتجاج”. وتابع: “ازدرى بشار الأسد المؤسسات الدينية تماماً، ولكن عندما اندلعت الثورة، وجد أن هناك حاجة لاستخدامها في مواجهة الشارع، لكن المؤسسات الملحقة بالنظام كانت قد فقدت أي تأثير”. وأشار إلى أنه “في سنوات الثورة والحرب، أجرى النظام عملية تغيير ديمغرافي من خلال دفع السوريين إلى الهجرة وإحلال سكان آخرين محلهم مع عمليات تبشير محمومة تستخدم امتيازات الفصائل الشيعية”.
عبد الرحمن الحاج: قانون الأوقاف يمثل صيغة نموذجية لتفكير الأسد وعلاقته بالمؤسسة الدينية
وحول ذلك، رأى الحاج أن الإيرانيين “اخترقوا كل مؤسسات الدولة الحيوية والاستراتيجية، وحتى السيادية، إلا أن السيطرة على المؤسسات الدينية ظلت ضعيفة لكنها كانت تتم بهدوء”. وأوضح أن “الخطوة الأولى كانت تعيين مستشار شيعي عراقي لوزير الأوقاف يملك نفوذاً كبيراً، أما التالية فكانت إصدار قانون الأوقاف والذي يمثل صيغة نموذجية لتفكير بشار الأسد وعلاقته بالمؤسسة الدينية”. ولفت الحاج إلى أن “هذا القانون أحدث تغييرين: الأول هو إنشاء مجلس علمي للإفتاء يضم كل المذاهب، ويضم رسمياً مفتين شيعة يحظون بمقاعد كثيرة لا تتناسب وعددهم السكاني، والثاني تقزيم منصب المفتي العام للجمهورية إلى موظف يتبع وزير الأوقاف الذي يقوم بتعيينه بالتشاور مع السلطة السياسية”. ورأى أن “هذا القانون حوّل وزارة الأوقاف إلى جهاز أمن ديني، وبعد ذلك، تُوّجت التغييرات الديمغرافية والنفوذ الإيراني المتزايد بالقرار الأخير في إلغاء منصب المفتي وتحويل صلاحياته لمجلس الإفتاء”. وقال مدير “مؤسسة الذاكرة السورية” إنه “إذا نظرنا إلى الوجود الشيعي في مجلس الإفتاء (جميع المقاعد محسوبة على الإيرانيين)، سنجد أنه لا توجد كتلة من الطوائف يمكنها تمرير قرارات لا توافق عليها الكتلة الشيعية، ما يعني السيطرة الإيرانية الإدارية على قرار وزارة الأوقاف”.
العربي الجديد