يحيى العريضي
تحرص روسيا على انخراط “منظومة الأسد” في العملية السياسية، لا لإنجاز حل منصف وعادل في سوريا، يوقف مأساتها ويعيد الحقوق لأصحابها، بل للاعتقاد بأن مجرد ولوج المنظومة في العملية كفيل بالمساهمة الفاعلة بكسر الحصار والمقاطعة والعقوبات، وإعادة تدويرها. يستلزم ذلك تجاوباً، ولو بالحد الأدنى مع هذه العملية؛ وخاصة أن روسيا عملت جاهدة على اختصارها واجتزائها وحصرها في /كتابة دستور لسوريا/ يأتي القرار الدولي 2254 على ذكره.
ولمجرد ذكر القرار الدولي، رحّب المعنيون بالشأن السوري بالخطوة، رغم انتقاد تجزئة الحل والشك المُحق بأن المشكلة السورية ليست في الدستور، بل أوسع من ذلك بكثير. استلزم ما تصبوا إليه روسيا مدعمات كثيرة، وعلى رأسها تجاوب من منظومة الاستبداد، ورغبة من المعارضة، ومرونة من وساطة دولية تيّسر العملية. تبيّن لروسيا أن أي خلل في أطراف المثلث هذا، سيخرّب عليها ما تفكّر به.
من هنا سعت روسيا إلى تعطيل كل ما يمكن أن يعرقل نهجها. اتضح أنه لم يكن لديها مشكلة مستعصية مع المعارضة، التي تعتقد بدورها أن مجرد دخول “النظام” في العملية السياسية، هو نسف لنهجه العسكري الراسخ في قمع كل مَن يقول له “لا”، وهو اهتزاز لـ “شرعيته”؛ لأن يداً أخرى، لا يده، ستضع دستوراً للبلاد. رغم ذلك، كان دخول المعارضة في هذه العملية مدعاة لسيل من النقد والتجريح؛ وصلت إلى حد التخوين. وحالها هذا يشكّل خللاً لا بد أن ينعكس على التوجه الروسي؛ فضلع المثلث هذا قد يتصدع، وتنهار كل اللعبة الروسية.
لم تنفع دعوة رأس المنظومة إلى موسكو، ولا إرسال مبعوث بوتين إلى دمشق قبل الجولة القيصرية السادسة للجنة الدستورية
المفارقة العجيبة أن الضلع الثاني المتمثل بمنظومة الاستبداد، والذي تعتقد روسيا أنه سيكون الرابح النهائي من هكذا عملية عبر حصاد رفع العقوبات والمقاطعة وصولاً لإعادة التدوير- إن هو تجاوب مع نهجها – هذا الضلع الخبيث، بمكابرته، وبتشجيع إيراني، هو الذي يعطّل على الروس خطتهم التي يصفها البعض بالبهلوانية. فلم تنفع دعوة رأس المنظومة إلى موسكو، ولا إرسال مبعوث بوتين إلى دمشق قبل الجولة القيصرية السادسة للجنة الدستورية.
الضلع الثالث والأهم في هذه المعادلة – وهو موضوع هذا المقال – يمثله المبعوث الدولي، الممثل لهيئة وهيبة الأمم المتحدة، التي ينص ميثاقها مثالياً على مبادئ صون حقوق الإنسان، وحريته، وكرامته، وتحقيق السلام العالمي، وردع الاستبداد، ومحاسبة مجرمي الحروب. تلك هي مهمته مثالياً؛ ولكن -حسب المشيئة- الروسية تم حصر مهمته كميسّر، ليس إلا؛ وربما وجوده واستمراره مشروط بألا يسمي الأمور بمسمياتها، أو يضع النقاط على الحروف بكامل الحيادية والموضوعية والصرامة. فما الذي فعله السيد “غير بيدرسن” في إحاطته لمجلس الأمن بعد الجولة السادسة من مهمته؟ للأسف، هناك شبه إجماع على أن ما قاله يعاني من العطب، وما لم يقله كان أكثر عطباً:
- تحدّث الرجل عن “اتفاق على منهجية عمل اللجنة”، وانتقل الآن إلى البحث عمّا سمّاه / آلية تعديل النصوص/. أوليست هذه “الآلية” متضَمَنة حكماً في “المنهجية”؟ والأهم، لماذا لم يحدّد مَن أخلَّ بهذه المنهجية وعطّلها؟
- ما كان يمكن أن يساعد الرجل في تسمية الأمور بمسمياتها هو فقط استذكاره للتسعة أشهر التي انتظرها على أبواب عصابة دمشق توسلاً لزيارة، وعلى أبواب موسكو لتيسير ذلك. وهنا نسأله: هل كان اشتراط موسكو لتيسير الزيارة عدم تسمية الأمور بمسمياتها؟!
- كيف يريد السيد بيدرسن أن يكون هناك “أرضية مشتركة/ common grounds” مع مَن يرى في “سيادة سوريا” فقط وحصراً سيادة سلطة فعلت بسوريا كل هذا خلال عشرة أعوام، ومَن يرى في “الإرهاب” فقط من يعارض الإجرام، ومن يقول “لا” لمنظومة الاستبداد برأيها يرتكب الخيانة العظمى؟ وهل هذه نصوص دستورية؟!
- أليس هناك “سلة” خاصة للإرهاب والأمن في القرار 2254؟ وإذا كان ذلك قد فات وفد المعارضة لفت الانتباه إليه؛ ألم يكن من واجب “الوسيط أو الميسّر” القيام بذلك حتى يخفف من أمور تعرقل إيجاد “الأرضية المشتركة/common grounds “؟
- عندما ترد على لسان السيد “بيدرسن” في إحاطته الأخيرة عبارة / الالتزام الصارم بالقانون الدولي الإنساني/؛ وأضحى معروفاً وموثقاً أن مَن يخرق هذا القانون هو “نظام الاستبداد” في دمشق؛ فهل كان سيعقّد مهمته لو ذكر أو ذكّر بذلك صراحةً، أم أن الدبلوماسية تقتضي ذلك، أم أن ذلك أحد شروط استمرار المهمة التي لا يُحسَد عليها؟!
- إذا كانت سياسة “الخطوة مقابل خطوة” أو “الخطوة بخطوة” التي يتفضل بها السيد بيدرسن تساهم أو تعزز تطبيق أوسع للقرار 2254، فما الخطوة الإيجابية التي قام أو يمكن أن يقوم بها “نظام الأسد” في هذا الاتجاه؟! أهي مثلاً “تبادل” أسرى أو معتقلين كما توحي بعض تضمينات كلام السيد بيدرسن؟ وهل هناك أي مقارنة بين مَن حجز أو أخفى مئات آلاف السوريين وبضع قتلة تم احتجازهم لإجرامهم؟! أليست معظم الخطوات التي يذكرها أيضاً تضمينا قضايا فوق تفاوضية نص عليها القرار الدولي ذاته؟!
لو عَلِمَ السيد “غير بيدرسن”، المبعوث الأممي للقضية السورية، حجم الهجوم المحق الذي تتعرض له اللجنة الدستورية والسوريون المنخرطون بها من جانب المعارضة؛ لعدَّل أو غيّر موقفه وخطابه
أخيراً، وليس آخراً، عندما يُرمى باللائمة على مجموع الوفود أو يستخدم “المبني للمجهول” للدلالة على الفاعل، أليس هذا إزاحة للأنظار عن المتسبب بـ “خيبة الأمل” التي كانت خلاصة الجولة؟! وأخيرا، أملُ مَن ذاك الذي خاب في قوله “كانت نتائج الجولة مخيبة للآمال”؟ مؤكد أنها خيبة عامة وخسارة لِمن يبحث عن حلٍ حقيقي وتطبيق فعلي للقرار الأممي 2254، ولكن الخيبة هي خيبة هذا المثلث الملعون والمطعون والمبني على بهلوانية تتسع لتضييع الحق السوري. وبالدرجة الأولى هي خيبة لروسيا تحديداً، وله ربما أكثر. لو عَلِمَ السيد “غير بيدرسن”، المبعوث الأممي للقضية السورية، حجم الهجوم المحق الذي تتعرض له اللجنة الدستورية والسوريون المنخرطون بها من جانب المعارضة؛ لعدَّل أو غيّر موقفه وخطابه، وسمّى الأمور بمسمياتها إنصافاً وشهادة للتاريخ واحتراماً لنفسه وللأمانة بين يديه. وحتى يكفّر الرجل عما جرى خلال عامين، عليه مخاطبة مجلس الأمن حصراً، بأن على أعضائه تقديم الدعم الحقيقي والعلني والصادق في إنجاز مهمته، أو…