تُمثل ريهام شريحة واسعة من مجتمع يعيش حالة من الاضطراب النفسي المتعدد الأوجه، لا يمكن حصرها طبعاً بظروف اجتماعية واقتصادية عابرة، بل باتت جزءاً متأصلاً في حياة السوريين، عشر سنوات مضت وفصولها القاسية لم تتوقف يوماً، بل ما تزال جاثمة على صدور السوريين.
وبما أن النتائج في علم المنطق الرياضي تكون انعكاساً لمقدمات سابقة، فالسيدة ريهام حالة واقعية تعيش مرض الاكتئاب، حاولنا التواصل مع ابنتها الكبيرة التي روت بكثير من المرارة والحزن قصة والدتها التي كانت سابقا المحرك الرئيسي لمنح أسرتها الطاقة والتفاؤل والأمل، وتقول ابنة ريهام إن أسرتها مكونة من ثلاثة أشقاء، ووالدتها لم يكن لديها شكاوى نفسية سابقة، لكنها بدأت بالظهور قبل ثلاث سنوات في عام 2018، وتُرجع الابنة الأسباب إلى الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها عائلتها، وخاصة أن والدها متوقف عن العمل، بحكم أنه متخلف عن أداء الخدمة العسكرية، فهو مطلوب لخدمة الاحتياط منذ سنوات، وهذا الأمر نقل دفة القيادة إلى الأم، فتسلمت مهام البيت كاملة، وتراكمت الديون على الأسرة، وبحسب رواية ابنتها بدأ يظهر على الأم قلق وعصبية زائدة أجبرتها على تعاطي أدوية الاكتئاب، ولكن بوصفات طبية وتحت إشراف الطبيب، إلا أن الأدوية سببت لها اضطرابات بالقلب وضيقاً في التنفس.
(طلال) حالة أخرى لرجل متزوج ولديه ولدان، كانت حياته هادئة، ودخله من عمله في صالة لبيع السيارات، يكفيه لسد احتياجات أسرته التي كانت تقطن في منطقة حرستا بريف دمشق، ومع بداية الحرب في سوريا شاهد كثيرا من الأمور المروعة؛ كالانفجارات وتساقط القنابل والاشتباكات اليومية، فنزح إلى العاصمة دمشق، و خسر عمله ودخل في ضائقة مالية كبيرة، عندها بدأ الخوف والقلق يتسلل إلى حياة طلال، فاتجه لتعاطي حبوب مضادة للاكتئاب من دون وصفة طبية، بعد أن وصل إلى مرحلة قاسية جداً، جعلته يفكر بالانتحار أكثر من مرة نتيجة الفقر والوضع المادي السيئ وعدم توفر فرصة عمل جيدة له بحسب رواية شقيقته.
ما أسباب اكتئاب السوريين؟
معظم المجتمع السوري يعاني من مرض الاكتئاب وحالات عديدة انتهى بهم الأمر إلى الانتحار، نتيجة الضغوط الاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي تعصف بحياة السوريين وآثار الحرب التي ما تزال نتائجها جاثمة على صدور السوريين، حيث ساهمت بمشكلات نفسية عديدة، دفعت بكثير من السوريين للبحث عن دعم نفسي والحصول على العلاج بطرق فردية عن طريق تعاطي الحبوب المضادة للاكتئاب من دون وصفات طبية.
10 في المئة من السوريين مكتئبون
وقدر أحد الأطباء النفسيين ويعمل في مستشفى ابن رشد بدمشق أن التقديرات الأولية لعدد المكتئبين في سوريا والذين بحاجة إلى مساعدة طبية تقدر بنحو 10 في المئة مقارنة بالبلدان التي شابهت أزمات حروب مثل سوريا، لافتا إلى أن عدد زوار العيادات النفسية في سوريا يتراجع في الأزمات على عكس الرائج معتبرا أن الصحة النفسية ليست أولوية عند الشعب السوري، بل الأولوية للطعام والشراب، وإذا توفر معه مبلغ مالي إضافي فمن الممكن زيارة العيادة النفسية التي يعتبرونها رفاهية، أمام ضغوط الحياة.
بينما الدكتورة النفسية ريم من دمشق (فضلت عدم ذكر اسمها الكامل) تقول: إنه لا يمكن حصر عدد الحالات التي تلجأ إلى الأطباء النفسيين، لكن العدد وسطياَ الذي يصل إلى عيادتي يقدر من 6 حالات إلى 7 باليوم الواحد.
وترجع الطبيبة أن أول سبب من أسباب تناول المرضى للأدوية هو الضيق المالي والحياتي والشعور بالعجز لمواجهة الحياة بقوة، وهناك أسباب أخرى ناتجة عن علاقات عاطفية فاشلة أو زواج فاشل أو عن علاقات خيانة زوجية من الطرفين، كما أن الحرب في سوريا زادت من هذه العلاقات لعدم توافر العنصر الذكري، في ظل غياب رقابة الأهل بسبب الفقر، حيث أصبحت الفتيات يلجأن للعلاقات كمصدر رزق باعتباره الحل الأسهل، وتوجد شريحة من الفتيات يتعاطين الحبوب المضادة للاكتئاب بسبب تعرضهن للاغتصاب من أحد أفراد أسرتهن (الأب – الأخ).
(كاترين) فتاة تتعاطى دواء مضاداً للاكتئاب لعلاج حالتها النفسية السيئة نتيجة مرورها بتجربة عاطفية مع شاب غير قادر على الزواج بحكم ظروفه المادية، لكنها تمكنت من الإقلاع عن هذا الدواء مع مرور الزمن ومع تحسن وضعها النفسي، حسب رواية والدتها.
وأوضحت الدكتورة ريم أن كثيراً من الناس يلجؤون إلى الحبوب بشكل غير مدروس ومضبوط، إحدى النساء تشرح عن مدى فعالية دواء معين لأنها كانت تعاني من القولون العصبي أو ما شابه، هذا الأمر يشكل حافزاً لدى باقي النساء لتعاطي هذا الدواء، وهذا النمط ازداد لأن كل أنثى تنصح معارفها بتعاطي أدوية فعالة مريحة تعمل على إزالة التوتر والعصبية.
الظروف الاجتماعية الصعبة تدفعهم إلى تناول الأدوية
باشرت (أمل.س) بتناول أدوية الاكتئاب، في عام 2019 فهي تعاني حالة من القلق والشعور بالوحدة وخوفها الدائم من المستقبل، حتى وصلت إلى مرحلة الاكتئاب مع فقدان الاستجابة للأشياء التي كانت ممتعة ومحببة لديها، حتى اضطرت للجوء إلى الأدوية من دون وصفات طبية، حسب رواية إحدى صديقاتها.
وفي هذا الجانب يؤكد الدكتور النفسي (أحمد.ب) عيادته في محافظة ريف دمشق بجرمانا – أن هناك نسبة من الرجال والنساء تتعاطى الحبوب المضادة للاكتئاب نتيجة تعرضهم للفشل في حياتهم وهذه المشكلات تولد لديهم عقداً نفسية فيلجؤون إلى الحبوب كنوع من المهدئات.
ويبدأ المريض بالتعاطي بعد تناوله حبتين أو ثلاث حبات أسبوعيا، ثم حبة كل يوم ليلاً وهذا الأمر يشكل اعتيادا أو إدمانا فيلجأ المريض إلى تعاطي أدوية ذات عيارات مرتفعة و قد ينجم عن ذلك حالات وفاة لأنه يسبب أعراضاً انسحابيةً (خللاً في الجسم) ويمكن للمريض الخروج من حالة الإدمان ولكن بشكل تدريجي، والبداية من تخفيف العيارات حتى يمتنع عن تناول الأدوية، فحالات الإيقاف السريع لها سلبيات عديدة، حيث تسبب رجفة وعصبية زائدة ونوعاً من الهستيريا مثل الانفجار المفاجئ بالبكاء.
أدوية الاكتئاب والمهدئات في السوق السورية
تتنوع أسماء الأدوية التي يتم تداولها في السوق السورية، وبحسب علاماتها التجارية التي تختلف بين شركة وأخرى وأبرزها (موتيفال، بروزياك، فلوزاك، بيوفكسور، ديلوكسيتين انفرانيل، استالوبرام، فلوكستين، سيراترالين وباروكسيتين) ومجمل هذه الحزمة من الأدوية برأي الصيدلاني حسام علي تؤدي إلى النوم والشعور بالراحة، بينما هناك أدوية منها تسبب الإمساك والأرق، ويوجد أشخاص يحضرون إلى الصيدلية ولا يعانون من الاكتئاب ولكنهم يلجؤون إلى هذه الأدوية، ومنها على سبيل المثال تعاطي دواء “موتيفال” الذي يخفف وجع الرأس، كما تلجأ نساء كثيرات للحصول على دواء “بروزياك” باعتباره يسبب التنحيف، و الدواء يُعطى لمدة 3 أشهر، ويجب أن يكون تحت إشراف طبيب، حيث مفعول الأدوية يظهر بعد مرور أسبوعين من تناولها. وتوجد مضادات اكتئاب عشبية وآمنة تسبب النعاس وآثارها السلبية قليلة، وهناك دواء الكسوتان وهو من العيارات الخفيفة بينما دواء “زولام” يعتبر من الأدوية الثقيلة العيار جداً فيسبب غيابا عن الواقع.
بينما دواء “ترامادول” الأكثر تداولا في السوق وخارج زمرة مضادات الاكتئاب يحذر منه الصيدلاني حسام الذي يعتبر ضمن صنف أدوية المخدرات ويؤدي إلى الإدمان الخطير، ويرجع سبب توفره في الصيدليات لكونه يستخدم أحيانا في تسكين آلام أصحاب الأمراض المزمنة كالسرطان ، رغم أن بعض الصيادلة يبيعون هذا الدواء من دون وصفة طبية.
الحرب ضاعفت من عدد المكتئبين
معظم المرضى من المراهقين والمتزوجين والنساء يلجؤون إلى الجمعيات والمراكز الخاصة للدعم النفسي للتخفيف من حالة الاكتئاب. وبحسب مصدر يعمل في أحد المراكز الخاصة للدعم النفسي في العاصمة السورية دمشق أوضح أن نسبة التعرض للاكتئاب وتعاطي الحبوب المضادة للاكتئاب ازدادت بشكل كبير خاصة خلال سنوات الحرب في سوريا حيث يتم تعاطي المرضى للحبوب بشكل عشوائي وغير مضبوط ولا توجد ضوابط بخصوص هذا الموضوع.
وخلال سنوات 2008 و 2009 و 2010 كانت الأعداد التي تراجع المركز قليلة جداً وتعاطي الحبوب المضادة للاكتئاب كانت مضبوطة، ولكن بدأت النسبة بالارتفاع بعد عام 2011 حيث أن معظم الأمراض الفيزيولوجية منشؤها نفسي ويؤدي إلى الكآبة، وحالات الاكتئاب أثرت على الحياة الجنسية والصحية والفيزيولوجية والنفسية، وازدادت بشكل كبير خلال سنوات الحرب بسبب الفقر والوضع الاقتصادي والاجتماعي السيئ وضغوطات الحياة.
وأوضح المصدر أن مراحل العلاج في المركز تبدأ من خلال المعالج النفسي الذي لا يحق له كتابة أي وصفات أدوية.. ويتم العلاج بوسائل سلوكية معرفية عبر رواية القصص أو حث المريض على إجراء التمارين الرياضية و سماع الموسيقا لتخفيف التوتر وحالات الاكتئاب.
وفي حال لم تنجح وسائل المعالج النفسي يحول المريض إلى دكتور نفسي الذي بدوره يقوم بإعطاء وصفات أدوية بشكل مضبوط ومدروس حسب معايير الحالة والوضع الصحي، والعلاج يكون بشكل مؤقت ومدروس وتحت إشراف الطبيب.
مرض العصر
اعتبر الدكتور فايز قنطار أستاذ سابق في كلية التربية في جامعة دمشق أن الاكتئاب مرض العصر وأكثر من 20 % من الناس يتعرضون لحالات اكتئاب تتفاوت في درجة حدتها، وأخطر ما يؤدي إليه الاكتئاب هو الإقدام على الانتحار وهذه المحاولات قد تنجح أو تفشل، ومواجهة هذا المرض لها جوانب نفسية والتي تحد من مواجهة هذه المشكلات.
غياب الإحصائية الرسمية للأمراض النفسية
لا توجد إحصائية رسمية دقيقة للمصابين بالأمراض النفسية في سوريا، إلا أن زيادة الإقبال على أدويتهم يعكس مدى انتشار تلك الأمراض بشكل كثيف. وأبرز الإحصائيات التي رشحت عن وزارة الصحة في حكومة النظام حول خدمات الصحة النفسية التي تقدمها الوزارة، كان آخر تقرير لها صادر قبل عامين أي في عام 2019 حيث قُدرت عدد الخدمات الصحة النفسية في عام 2019 نحو 135242 خدمة نفسية وتضاعف هذا العدد كثيراً مقارنة مع عام 2013 الذي بلغ نحو 57267 خدمة نفسية، بينما بلغ مجموع عدد الحالات المرضية للاكتئاب في 2019 قرابة 31401 مكتئب بنسبة قدرها 24 % وهي النسبة الأعلى المتعلقة بالحالات المرضية التي تقع تحت الأمراض النفسية.
وفي إحصائية شبه رسمية من جمعية تابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية، اسمها أمل الغد أوضحت أن نسبة تعاطي الأدوية النفسية ٤٠% والأطفال من الطبقة الفقيرة ٢٠% الذين يلجأ معظمهم لتعاطي الحشيشة وشم مادة الشعلة “السائل اللاصق”، وأرقام الجمعية استندت على الأرقام الرسمية لوزارة الشؤون الاجتماعية التي وزعتها على المراكز والجمعيات التي تتبع لها.
بينما قدّرت منظمة الصحة العالمية أنه نتيجة طول أمد التعرض للعنف في سوريا، فإنه يعاني واحد من كل 30 شخصاً في سوريا من حالة صحية نفسية وخيمة مع إصابة واحد على الأقل من كل خمسة أشخاص بحالة صحية نفسية خفيفة إلى معتدلة.
تلفزيون سوريا