الحمد لله “مات تحت التعذيب”

مالك داغستاني

عام 1990 مع انهيار الاتحاد السوفييتي والتبدلات التي طرأت على العالم، وبروز موضوع حقوق الإنسان للواجهة الإعلامية. تبلغنا في سجن صيدنا أن هناك لجنة طبية سوف تخضع المرضى للفحص، وأن الأمر يأتي في سياق الإفراج عمن تثبت إصابته بمرض عُضال (لولا هذا الاستخدام الرسمي لها، أعتقد أن كلمة “عضال” الفظّة يجب أن تكون مندثرة من اللغة).

لم يكن هذا التقليد معروفاً في سجون حافظ الأسد، ولم يحدث من قبل أن لجنة كهذه زارت أيّاً من السجون، مع أن هناك الكثير من الذين ماتوا بأمراض عديدة، أو نتيجة الشيخوخة والتقدم بالسن، طبعاً عدا من ماتوا بأحكام الإعدام وتحت التعذيب. كانت المفارقة في تلك الفترة، بعد أن قابل المرضى اللجنة، أن تسمع من الزملاء، مع الكثير من السخرية السوداء، التهاني للمريض بعد أن ثبت لدى اللّجنة بالفحوص والتحاليل، أنه مصاب بالسرطان أو بقصور في القلب مثلاً، فهكذا أمراض ستؤدي إلى الإفراج غالباً، أما ذاك المسكين المصاب بالسل الرئوي أو التهاب الكبد الفيروسي أو العمى غير التام، سوف يستحق بعض المواساة من الزملاء، فمرضه بسيط ولن يؤدي بالضرورة لإنقاذه من هذا المكان. اعتقدنا يومها أنها كانت السنوات الأكثر سوريالية.

الموت حينها تحوّل إلى نوع من الهروب المشروع أمام ذلك الرعب. الكابلات الكهرباء العصي الغليظة الحذاء داخل الفم

الآن سأدعوكم إلى التجربة التالية. معظمكم إن لم يكن جميعكم شاهد الصور المفزعة لجثمان الطفل حمزة الخطيب، بما يحمله من آثار وحشية للتعذيب. لنتخيل الآن أنه لم يمت تحت التعذيب وما زال منذ أكثر من عشر سنوات يعيش حالة التعذيب تلك، تعذيب يومي يوصله إلى ما قبل الموت بقليل. أنا تخيلت ذلك، مستعيناً بتجربة شخصية لم تدم سوى أربعة أيام تمنيت الموت خلالها عشرات المرات، بل وحاولتهُ. الموت حينها لم يكن هو الموت ذاته المعروف في الظروف الأخرى بما يعنيه من إغلاق لآخر الأبواب ومن بعده يأتي العدم ولا هو أيضاً تلك الخطوة باتجاه الظلمة والسكون المخيف. لم يكن افتقاداً للأحبَّة ولا هو انطفاء كل لطائف العيش دفعةً واحدة وانسحابٌ نهائي لكل الأشياء الجميلة. الموت حينها تحوّل إلى نوع من الهروب المشروع أمام ذلك الرعب. الكابلات الكهرباء العصي الغليظة الحذاء داخل الفم. هو الهروب من ذلك الإحساس بأنك أرنب وحيد ومذعور ومُطاردٌ من ألف ذئب معاً. هاجس الموت بصفته المرافق الدائم للعيش البشري خشيةً منه وخوفاً من مباغتته سيتحول وسط ذاك الرعب في تلك اللحظات إلى منتهى الحلم.

في ظل ظروف محلية وإقليمية ودولية لا يمكن فيها إجبار الأسد على الإفراج عن المعتقلين تحت التعذيب، ألا يخطر بالبال أن الموت نوع من أنواع النجاة؟ أليس الموت تحت التعذيب سريعاً أفضل من البقاء سنوات طويلة تحت التعذيب، دون أي أمل بالخلاص؟ حتى ليغدو تعبير مات تحت التعذيب في سجون الأسد أقل وحشية من تعبير عاش تحت التعذيب.

هل ما أكتبه هنا نوع من الهذيان الإجرامي؟ نعم قد تبدو الفكرة كذلك لكل إنسان لم يختبر العيش تحت التعذيب في سجون الأسد. لكن في تلك السجون تكتسب الفكرة الكثير من المعقولية والوجاهة. ستبدو قاسية وغير إنسانية على أهالي المعتقلين ولكن غالباً سيكون للسجين رأي آخر. ستكون عديمة الإنسانية بل ووقحة في أي مكان من العالم، لكن ليس في سجون سلطة الأسد.

الموت، كالكثير من الأشياء الأخرى، أمرٌ مُختَلَفٌ عليه بين البشر حتى في الظروف العادية، بالرغم من أنه مخيف دائماً مع ما يرافقه من خيالات. هذا الموت ذاته سيصبح بالنسبة للإنسان مقبولاً بل ومرغوباً، حين يجد نفسه في صراع غير متكافئ مع مجموعة بشريةٍ يمكنها أن تجعله يشرب من ماء المجارير، أو يخلع بنطاله ويتبول على السجين المجاور، ثم يصيح بأعلى صوته: “عاش وجودكم يا أنصاف الآلهة، عاش إلى الأبد”. وحتماً سمعتم من كثيرين عاشوا التجربة وهم يتحدثون عن موت زميل لهم تحت التعذيب ثم يعقّبون “الحمد لله ارتاح”.

القتل تحت التعذيب ليس جذر الجريمة لدى نظام الأسد. جذرها هو الاعتقال التعسفي، ويأتي التعذيب كجريمة إضافية، وتتويجاً يأتي القتل تحت التعذيب. وسأدّعي أنني قرأت الكثير من الوثائقيات والكثير من أدب السجون الذي يروي وقائع عاشها الكتّاب أنفسهم، وأجزم أنني لم أقرأ عن وحشية في العصر الحديث، تشبه وحشية سجون الأسد. أليست صور قيصر ندبة في التاريخ الإنساني بل تكاد تكون عاراً على كل حكومات العالم، حيث تمَّ تمريرها دون أي فعل رادع يمنع تكرارها وهي غيض من فيضِ ما حدث في السجن السوري الكبير.

نظام الأسد يعرف لغة واحدة ويرضخ لها هي اللغة التي أجبرته صاغراً على إنهاء احتلاله للبنان عام 2005

قبل أيام قليلة في 26 حزيران مرّ اليوم العالمي لمساندة ضحايا التعذيب. وظهرت بعض الوقفات التضامنية النبيلة مع المعتقلين والمختفين لدى سلطات الأسد. في الشأن السوري لم يصدر منذ عشر سنوات قرار أممي إلا وتضمّن أولاً بند الإفراج عن المعتقلين وضرورة الإفصاح عن مصير المختفين قسرياً. أصحاب تلك القرارات التي استنفدت ورقاً وتكاليف ترجمة، يعلمون تماماً قبل إصدارها بأنها لن تُنفّذ، وهم يعرفون الآلية التي تجعل الأسد يصغي. نظام الأسد يعرف لغة واحدة ويرضخ لها هي اللغة التي أجبرته صاغراً على إنهاء احتلاله للبنان عام 2005. هذه اللغة ليست في وارد الدول الفاعلة حتى اليوم.

بعد تجربة آلاف الليالي الباردة في السجن، وعندما تطول السنوات يكتسب السجناء خبرة قاسية في الوحدة، وتتكون لدى السجين تعريفات غير نمطية للحياة والموت. غالباً ما تكون هذه التعريفات متطرفة بحكم تطرف الشرط الذي أُنتِجت في فضائه. من تلك الذاكرة التي لا تموت، كتبتُ فكرتي الوقحة.

تلفزيون سوريا