لم يكن مفاجئاً للسوريين انحياز أغلب المنتمين لـ”المؤسسة الدينية” في سورية، منذ بدء الثورة في ربيع عام 2011، إلى جانب نظام بشار الأسد، وهو ما تجلّى في العديد من المواقف، آخرها كان التأييد للأسد في الانتخابات الرئاسية التي أجراها أواخر مايو/ أيار الماضي.
ووصل الحال ببعض مشايخ هذه المؤسسة إلى أن خرجوا بمسيرات، نُشرت مقاطع منها على مواقع التواصل الاجتماعي، ولاقت استهجاناً واسعاً، تؤيد بقاء الأسد في السلطة حتى عام 2028، على الرغم من كل ما جرى في البلاد على مدى أكثر من عشر سنوات. ووُصف أولئك المشايخ بـ”المهرجين” من قبل سوريين، بينما وصفهم الشيخ كريّم راجح، “شيخ قراء الشام” وهو من أبرز العلماء السوريين المعارضين، بـ”مشايخ وطراطير السلطان… الحمقى الذين باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم”، وفق قوله. وعلى الرغم من أن النظام عمل على تحييد المؤسسة الدينية في البلاد، بدءاً من 1963، تاريخ استيلاء حزب “البعث” على السلطة بانقلاب عسكري، إلا أن شرارة الثورة السورية انطلقت من المساجد في المدن كافة.
ظهر داخل المؤسسة الدينية السورية علماء كان لهم موقف معارض لسياسة بشار الأسد
وظهر داخل المؤسسة الدينية السورية علماء كان لهم موقف معارض لسياسة بشار الأسد القائمة على البطش بالسوريين المطالبين بالتغيير، أبرزهم الشيخ كريّم راجح، الذي كان خطيب وإمام جامع الحسن في حي الميدان الدمشقي، والذي اضطر إلى مغادرة سورية بسبب تهديدات بالقتل من قبل الأجهزة الأمنية. ومن العلماء الذين كانت لهم مواقف مشهودة دعماً للثورة الشيخان سارية وأسامة الرفاعي.
والحلف المعلن بين النظام وهذه المؤسسة قديم، إذ يعود إلى 1970 حين استولى حافظ الأسد على السلطة بانقلاب، ما كان ليستمر لولا مباركة هذه المؤسسة، التي كان يقودها الشيخ أحمد كفتارو الذي نسج مع مشايخ آخرين خيوط علاقة متينة مع الأسد منحتهم امتيازات جمّة مقابل الولاء وتهدئة الشارع، بل تدجينه. ومن اعترض من علماء دمشق المعروفين حُيّد قتلاً أو اعتقالاً، أو اضطر إلى مغادرة البلاد خوفاً على حياته من بطش أجهزة النظام الأمنية. وطيلة 30 سنة، لم يتأثر الحلف بين النظام والمؤسسة الدينية، التي هيمنت عليها طبقة من مشايخ العاصمة دمشق، بل تعززت هذه العلاقة في ثمانينيات القرن الماضي، عندما استطاعت الأجهزة الأمنية استقطاب الشيخ محمد رمضان البوطي، الذي كانت له مكانة علمية متميزة، ليس في سورية فحسب، بل في كل العالم الإسلامي.
وأدرك حافظ الأسد أهمية المؤسسة الدينية في تثبيت أركان نظامه، فعمل على انتساب عدد من المنتمين لحزب “البعث” إلى كلية الشريعة في جامعة دمشق، ليتحوّلوا إلى أبواق له على منابر المساجد في جميع أنحاء سورية. وعندما بدأت الأزمة الشهيرة بين النظام وحركة “الإخوان المسلمين”، والتي انتهت في فبراير/ شباط 1982 بمجزرة بحق المدنيين العزل في مدينة حماة، كان للمؤسسة الدينية دور بارز في الدفاع عن النظام، والتغطية على هذه المجزرة، التي سبقتها مجازر أخرى، منها مجزرة حي المشارقة في حلب. كما أنشأ حافظ الأسد في تسعينيات القرن الماضي ما سمّي بـ”معاهد الأسد لتحفيظ القرآن الكريم”، تحت مظلة وزارة الأوقاف والأجهزة الأمنية، في خطوة هدفها “إسكات الناس بخدعة افتتاح مُتَنفس لهم”، وفق “رابطة العلماء السوريين” التي تضم علماء معارضين للنظام، والتي أشارت إلى أنه بالتزامن مع افتتاح هذه المدارس كانت معتقلات النظام تغصّ بـ”معارضيه من الدعاة والشيوخ”.
وغضّت الأجهزة الأمنية التابعة للنظام، في العقد الأخير من القرن الماضي، الطرف عن بروز تيار ديني يُوصف بـ”النخبوي”، انتشر بين نساء الطبقة الغنية في دمشق تحت إشراف المفتي العام حينذاك أحمد كفتارو، عُرف بـ”القبيسيات”، نسبة إلى مؤسسة هذا التيار النسائي منيرة القبيسي، المولودة في دمشق في 1933. وانتقل هذا التيار إلى طور جديد من العمل لاستقطاب النساء بعد تولي بشار الأسد السلطة مع بداية القرن الجديد، معلناً تأييده المطلق للأسد الابن. وسمح النظام له بالعمل العلني بعد أن لمس أن هذا التيار يملك القدرة على التأثير على النساء الدمشقيات بشكل واسع، وهو ما استفاد منه النظام لاحقاً مع اندلاع الثورة في 2011، حيث دعم تيار “القبيسيات” الأسد بشكل كبير، فكافأه بتعيين “داعية” هي سلمى عياش في منصب معاون وزير الأوقاف في سورية، وذلك في ربيع 2014. وتشير مصادر مطلعة إلى أن هذا التيار يضم اليوم نحو 70 ألف امرأة، وأن “القبيسيات” يمتلكن أكثر من 50 في المائة من المدارس الخاصة، التي تنتشر في أحياء راقية من دمشق، وهناك أكثر من أربعين مسجداً تقوم عليها “القبيسيات” في هذه الأحياء.
عمل حافظ الأسد على انتساب منتمين لحزب “البعث” إلى كلية الشريعة في جامعة دمشق
ويصف الباحث الإسلامي محمد خير موسى، في حديث مع “العربي الجديد”، بنية المؤسسة الدينية في سورية بـ”التقليدية، سواء كانت صوفية أو سلفية أو حركية”، مضيفاً: “هذه المؤسسة تعرضت للشرخ أكثر من مرة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، خصوصاً عام 1964 عندما فاز أحمد كفتارو بدعم من حزب البعث الحاكم في انتخابات الإفتاء على الشيخ حسن حبنكه”. ويشير إلى أن المؤسسة الدينية “رحبت عام 1970 بانقلاب حافظ الأسد، بسبب شعور هذه المؤسسة أن صلاح جديد، الذي كان الحاكم الفعلي للبلاد، بلغ مرحلة غير مسبوقة من الاستبداد”، مضيفاً: “الأسد الأب قدّم خطاباً تصالحياً حتى عام 1973، حيث اعترضت المؤسسة الدينية على حذف مادة في الدستور الذي وضعه الأسد تنص على أن الإسلام مصدر رئيسي للتشريع”. ويبيّن أن الأسد “تراجع أمام ضغط المؤسسة وأعاد المادة، لكنه أضاف مادة تنص على أن حزب البعث قائد للدولة والمجتمع، وفي ذاك العام حدثت أول مفاصلة بين النظام والمؤسسة الدينية”.
ويلفت موسى إلى “أنه في فترة الثمانينيات شهدت المؤسسة الدينية مواقف متضاربة إزاء الأحداث التي عصفت بالبلاد، فغادر العلماء المنضوون في حركة الإخوان المسلمين سورية، ومن بقي قتل أو اعتقل، بينما اعتبر المفتي في حينه أحمد كفتارو أن ما تقوم به حركة الإخوان المسلمين فتنة”. ويضيف أن “فترة التسعينيات شهدت بزوغ نجم الدكتور أحمد رمضان البوطي، واستطاع الأسد احتواء الشيخ البوطي عن طريق رجل المخابرات محمد ناصيف”. ويشير إلى أن المؤسسة الدينية “انكفأت على نفسها في عقد التسعينيات، وانحصر عملها في المساجد. وبعد وفاة الأسد الأب في 2000 بدأت علاقة (جديدة) بين المؤسسة والنظام”. ويوضح أنه “مع بداية استلام بشار الأسد للسلطة، استغلت المؤسسة ما أشيع عن انفتاح للعودة إلى النشاط وافتتحت جمعيات اجتماعية وخيرية”، لافتاً إلى أن موقف الأسد الابن “كان سلبياً من المؤسسة الدينية، فأرسل لها العديد من الرسائل التي تحط من قدرها، فألغى الحفل الرمضاني الذي كان يقيمه والده للعلماء في رمضان”.
ويبيّن موسى أن بشار الأسد “بدأ يضيّق على المؤسسة الدينية بين 2006 و2011، حيث فتح المجال واسعاً أمام الإيرانيين لنشر المذهب الشيعي في سورية، وفصل أكثر من ألف امرأة منقبة من سلك التعليم في سورية”. ويشير إلى أنه في بداية الثورة السورية في 2011 “عمل الأسد على استرضاء المؤسسة الدينية، حيث تراجع عن قرار فصل المنقبات، مع الاعتراف بالشهادات التي تصدرها المعاهد الدينية. كما استعان بالمؤسسة الدينية لتطويق الحراك الثوري”. ويقول: “بعد أشهر من بدء الثورة بدأت تتضح الصورة داخل المؤسسة الدينية، حيث انحازت جماعة معهد “الفتح” ومعهد “كفتارو” إلى جانب النظام، بينما انقسم خريجو كلية الشريعة إلى قسمين، الأول انحاز للنظام إلى أبعد مدى، والثاني إلى الثورة إلى أبعد مدى”. ويلفت إلى أن بشار الأسد “أهمل الشيخ البوطي طيلة عشر سنوات، لم يلتقيه خلالها إلا مرة واحدة، ومع بدء الثورة استعان به لدعم موقف النظام مع تصاعد الحراك الثوري إلى أن اغتيل الشيخ البوطي في عام 2013”.
محمد خير موسى: عمل الأسد في بداية الثورة على استرضاء المؤسسة الدينية
من جهته، يشرح الباحث في مركز “جسور” للدراسات، عباس شريفة، في حديث مع “العربي الجديد”، أن “حافظ الأسد القادم من أقلية مذهبية في سورية كان يدرك أن حكم مجتمع غالبيته من السنّة يحتاج إلى مقاربة جديدة مع تجار ومشايخ دمشق وحلب، فسمح للمشايخ بدور محدد لاستيعاب المجتمع السنّي المحافظ، وقطع الطريق أمام الإسلام الحركي الذي كانت تمثله جماعة الإخوان المسلمين، وإيجاد قنوات بديلة لا تتدخل بالسياسة للشباب المتدين”. ويضيف: “كان الأسد بحاجة إلى مشروعية، خصوصاً من المشايخ لإقناع المجتمع السوري به، وهو ما قام به عدد من هؤلاء المشايخ المعروفين، إذ اعتبروا نظام الأسد حامياً للإسلام”.