يحيى العريضي
لم يحتل الروس منطقتنا يوماً. كان توقهم شديداً لمياهنا الدافئة. تاريخياً أوصْلنا إليهم بعض النفحات الروحية؛ وفي العصر الحديث تعلّق بعض شبابنا سياسياً بفكر، اعتقدوا أنه سيجلب المساواة والعدالة واحترام الانسان إلى عالمنا. الروس أنفسهم خابت آمالهم بمَن كان قائماً على ذلك، وانقلبوا عليه.
دخلت “سوخوي” بوتين بلدنا، وجرّب على أجساد السوريين وبيوتهم ومشافيهم وأسواقهم أكثر من مئتي صنف سلاح
تبعثر “الاتحاد السوفياتي”؛ ورثته روسيا، وورثت معه ترسانة نووية تدمّر الكرة الأرضية مرات. واستمر توتر علاقاتها مع الغرب، رغم تحالفهما تاريخياً في مقاومة النازية في الحروب العالمية. أحد العُقد الأساسية الموروثة الآن هي العداء للغرب، والإحساس بأنه المسؤول عن نهاية الإمبراطورية السوفييتية. واستمر حلم استعادة الإمبراطورية والتمدد عالمياً وكان من سوء طالع سوريا والسوريين أن يكون بلدهم هو الوجهة بحكم توفر منظومة استبدادية، استدعت روسيا بوتين لتحميها إثر انتفاضة سوريا.
دخلت “سوخوي” بوتين بلدنا، وجرّب على أجساد السوريين وبيوتهم ومشافيهم وأسواقهم أكثر من مئتي صنف سلاح؛ وكل ذلك تحت يافطة “الحرب على الإرهاب”؛ ولكنه كان فعلياً لحماية منظومة الاستبداد الأسدية. كما أنه أضاف للجرائم العسكرية جرائم سياسية، تتمثل بحماية الإجرام الأسدي سياسياً.
وضعت له أميركا “ترامب”، وإسرائيل، وبعض مَن يرغب بإعادة تكرير المنظومة الاستبدادية شرط إخراج إيران من سوريا؛ الأمر الذي يعجز عنه بالمطلق لأنها وإيران توءم سيامي. ومن جانبها روسيا لعبت بهذا الشرط، كورقة مساومة على ملفات أخرى ترزح تحتها؛ من هنا قال “لافروف” مؤخراً بلقائه مع “بلنكن” إنهم ليسوا مغرمين ببقاء إيران في سوريا.
من أجل تحقيق مصالحها في سوريا- وبعد أن أخذت توقيع الأسد على عدد من العقود المزمنة بوضع اليد على كثير من مقدرات سوريا- وجدت السياسة الروسية نفسها مضطرة إلى إرضاء معظم القوى الموجودة أو المؤثرة على الساحة السورية. ونظراً لخصوصية الحالة السورية، كانت تلك “الإرضاءات” تأخذ شكلاً تناحرياً، ومواجهاتياً أحياناً. كان عليها أن تنسق مع إسرائيل، وتسمح لها بإهانة حليفتها إيران في سوريا، إضافة لإذلالها للمنظومة التي تحميها في دمشق. وعليها أن تتعامل بعجز مع أميركا في الشمال الشرقي السوري؛ وبنوع من شراكة الأعداء مع تركيا في الشمال الغربي. والأعقد بالنسبة لها كان ربما التعامل مع إيران، التي تجد يدها تمتد في سوريا إلى كل مجال أو قطاع تريد روسيا أن تضع يدها عليه، حتى إلى سوق السلاح.
المفارقة العجيبة هي أن الجهة الوحيدة، التي بقيت خارج “الأجندة” الروسية، كانت سوريا وشعبها؛ رغم أن روسيا كانت الأكثر تصريحاً بالحفاظ على وحدة سوريا وسيادتها وسلامة أرضها وشعبها. وما حدث فعلياً هو عكس ذلك تماما؛ فلا سوريا واحدة، ولا سيادتها مصانة، ولا أرضها أو شعبها بخير. وكل ذلك تم ليس فقط بفعل المتدخلين الآخرين بالقضية السورية، بل باليد الروسية ذاتها.
إضافة إلى الدمار والقتل والتشريد الذي تسبب به فعلها العسكري، وحماية إجرام النظام بفعلها السياسي؛ لم تتمكن روسيا من إخراج معتقل، أو إعمار بيت، أو إطعام جائع، أو إعادة لاجئ، أو الدفع الصادق الحقيقي لعملية سياسية تنقذ البلاد والعباد؛ علماً أن القرارات الأممية بخصوص سوريا بمتناول يدها. وزادت في الطنبور نغماً، أنها دفعت باتجاه مسرحية انتخابية، وكأنها تصرُّ على تجديد المأساة.
روسيا هي الأخبر والأعمق علماً بهذه المسرحية السمجة التي عكست مأزومية منظومة الاستبداد وإفلاسها؛ والذي تجلى بوضوح في الخطاب التشبيحي الذي قدّمه ذاك المنفصم عن الواقع، والذي يعتبر أنه قد “انتصر”. وفي هذا السياق يقع ما تضمنته رسالة بوتين “للمنتصر” في خانة الانفصام أيضاً. فعندما يقول “بوتين” (إن نتائج التصويت أكدت بشكل كامل سمعتكم السياسية العالية، وثقة مواطني بلدكم بالنهج الذي يمارس بقيادتكم لاستقرار الوضع في سوريا وتعزيز مؤسسات الدولة في أسرع وقت)؛ فعن أي سمعة سياسية عالية يتحدث؟ وهل أصبح قتل الرئيس لشعبه وتشريده وإفقاره وإذلاله والاحتماء بالاحتلال “سمعة سياسية عالية”؟! وأي “ثقة” هذه التي تجعل كل مَن هو في سوريا يتوق بحرقة إلى الخروج منها؟!
نعرف أن روسيا دخلت مقامرة كبيرة بلعب هذه الورقة الهزيلة بانتظار لحظة المساومة المناسبة، حيث ترى بالأسد ضرورة للتوقيع على صفقات الدول في الأرض السورية؛ ولكنها بالتأكيد لم تتطلّع أو تتوقّع هكذا إعداد وإخراج لمسرحية المأزومين؛ وما توقّعت ربما خطاباً سوقياً بهذا الشكل. وما عبارة بوتين إلا مكابرة ومحاولة يائسة للرفع من ثمن ورقته الهزيلة.
الأمر الذي يقامر به بوتين أن تتحقق إعادة إعمار في سوريا، أو عودة لاجئين وربما إعادة تكرير لهذه المنظومة؛ ولكنه سرعان ما سيكتشف أن كلَّ هذا بات أقل احتمالاً، وخاصة بعد الخطاب التشبيحي لرأس النظام، والذي أعلن فيه “انتصاره” على من يريد بوتين عودتهم، وعلى أولئك الذين يعوّل عليهم كداعمين لإعادة الإعمار ولإعادة التكرير.
هل يفكر الروس بأن إنصاف السوريين يمكن أن يكفّر قليلاً عن الإجرام الذي ارتكبته روسيا بحق سوريا وأهلها؟!
هل يكتب الروس صفحة جديدة في سوريا، أم أنهم مصرّون على الخسارة وكتابة الصفحات السوداء؟ إذا كان الفيتناميون، على رأي الباحث السوري د. أسامة القاضي قد طووا صفحة طائرة الB52، فهل يفكر الروس بأن إنصاف السوريين يمكن أن يكفّر قليلاً عن الإجرام الذي ارتكبته روسيا بحق سوريا وأهلها؟! ومن أجل ماذا؟ من أجل عصابة مجرمة ساقطة؛ فهل يصحو الروس؟ وهل يلتفتون إلى عملية سياسية حقيقية وتطبيق حرفي لقرارات، هم أنفسهم وقّعوا عليها. هكذا يكون الجنى السياسي، وهكذا يكون الاستثمار الصحيح وهكذا تكون إعادة الإعمار وعودة اللاجئين وعودة سوريا إلى سكة الحياة؛ والأهم لروسيا الوصول إلى المياه الدافئة بشكل طبيعي لا بلطجياً أو بهلوانياً.