تعاني المسنات في شمال غربي سوريا من مشكلات اقتصادية واجتماعية وصحية ونفسية غاية في الصعوبة، إذ لم تكتف حرب النظام باختطاف أو تهجير أحبائهن وأبنائهن، وأجبرتهن للعيش في ظروف معيشية استثنائية تصعب حتى على الشباب مواجهتها، وخاصة في مخيمات النزوح التي تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة.
وتضاعفت معاناة المسنات النازحات في ظل جائحة كورونا، ووقوعهن ضمن الفئات الأكثر تأثرا بالوباء في ظل صعوبة العزل الاجتماعي وبعد المراكز الصحية وانعدام الاجراءات الاحترازية بشكل يهدد حياتهن كنساء كبيرات بالعمر كن الأكثر عرضة لمخاطر الفيروس.
“أتمنى لقاء أبنائي أو الموت”
أم عمر ستينية نازحة من ريف معرة النعمان الشرقي وتقيم في مخيم سرمدا تعاني آلام الوحدة والتشرد والمرض برفقة زوجها الذي فقد حاسة البصر، أما أبناؤها فبعضهم هاجر خارج البلد خوفا من بطش النظام، والبعض الآخر ورّيت جثامينهم الثرى. تعيش المسنة اليوم مع زوجها المريض بمساعدة جيرانها في المخيم، فقد تدهورت صحتها لدرجة أنها لم تعد قادرة على المشي، والسبب فقرها وعدم قدرتها على شراء الدواء.
وكنتيجة لطول المعاناة وتفاقمها وانعدام أفق لأمل قريب؛ لا تتمنى أم عمر إلا أمرين اثنين لنهاية هذه المأساة، فإما الفرج القريب عندما تجتمع مع أولادها الذين حرمتها الحرب من رؤيتهم أو “بالموت الرحيم”، بحسب ما قالت لموقع تلفزيون سوريا.
الغذاء مقابل الدواء
أما الحاجة السبعينية أمينة العبيد من ريف حماة الشمالي، فتعيش داخل خيمتها بشرود دائم، وشبه انفصال عن الواقع بعدما خسرت زوجها وأولادها الأربعة، وبقيت وحيدة تصارع مشقات الحياة.
تقول الحاجة والدموع لا تفارق وجهها الشاحب الحزين: “لقد خسرت في هذه الحرب كل ما يمكنه أن يجعلني أواصل العيش في هذه الحياة المريرة، لم أكن أتوقع يوما أن أبقى وحيدة في مثل هذا العمر بلا معيل وبلا رعاية، كما أن ألم الفراق ووحشة الوحدة تكاد تقتلني”.
وتعاني الحاجة من أمراض السكر وارتفاع الضغط الشرياني، لذلك فهي بحاجة مستمرة للدواء، ولتأمين ثمنه تضطر لبيع السلة الغذائية التي تحصل عليها شهريا من إحدى المنظمات الإغاثية، وحالة الحاجة أمينة مثال عن أمر شائع جداً في شمال غربي سوريا، وتؤكد هذه الحالات ندرة المشاريع الإغاثية والإنسانية التي تستهدف هذه الفئة المستضعفة والمتروكة.
تخشى العبيد من الإصابة بفيروس كورونا الذي وصل إلى المخيم الذي تقطن فيه، خاصة وأن أمراضها تصنف ضمن الفئة الأكثر تأثرا بمرض كوفيد١٩، وسط افتقار المخيم إلى أي نقطة طبية لمراقبة حالتها الصحية.
التشبث بالأرض المقصوفة
حاولت النساء الكبيرات بالعمر التشبث بمنازلهن ورفضن معظمهن مغادرتها للهرب من قصف النظام وحلفائه، ولكن سياسة الأرض المحروقة لم تترك لهن مجالاً للنزوح، إما إلى مدن وقرى أكثر أمناً أو إلى مخيمات المهجرين، وفي كلا الحالتين فإن الأسى والحزن لا يفارق وجوههن التي ملأتها التجاعيد.
أم حسين (68 عاما) من منطقة جبل الزاوية بريف إدلب، رفضت النزوح مع أبنائها والخروج من القرية بالرغم من القصف الشديد الذي تتعرض له المنطقة بشتى أنواع الأسلحة.
لا تخفي أم حسين خوفها الشديد من أصوات القصف، إلا أنها بقيت في منزلها، تقول: “لا أستطيع التحرك إلا في بيتي الذي يشكل ثمرة تعبي في هذه الحياة، ولا أقوى على السكن داخل خيمة قماشية لا ترد حر الصيف ولا برد الشتاء، رغم أن أولادي يلحون علي بالذهاب معهم، لكنني أرفض وأطلب منهم أن يتركوني هنا”.
وتابعت: “الهرب من القصف لا يعني الهرب من الموت، فجميع المناطق المحررة تعتبر هدفا للنظام وحلفائه.. كثيرون هربوا من القصف من بلدهم ليموتوا في قصف آخر على مكان نزوحهم، أفضّل الموت في بيتي وعلى أرضي على أن أموت مقهورة أو مذلولة في أرض غريبة”.
معاناة من حالات خاصة
هذه الحالات لسيدات في ظروف النزوح والتهجير تعبر عن حالة عامة، إلا أن بعض القصص تروي حالات خاصة من القهر والمعاناة الشديدة، وهذا ما وجدناه لدى السبعينية فاطمة العمري، على سبيل المثال وليس الحصر.
ترعى العمري النازحة من ريف إدلب الجنوبي أطفالاً صغاراً اغتالت الحرب طفولتهم، وحرمتهم من العيش في كنف أبويهم.
تقيم الحاجة فاطمة في مخيمات أطمة الحدودية مع أحفادها الثلاثة الذين قُتل والدهم في الحرب وتخلت أمهم عنهم، وأخذت الجدة على عاتقها رعاية هؤلاء الأطفال والإنفاق عليهم رغم حاجتها لمن يرعاها، فراحت تعمل في صناعة المؤونة وبيعها، متحدية وهن جسدها وعمرها الكبير.
تقول: “أعمل لأكفي أحفادي شر السؤال، فهؤلاء الأطفال هم أغلى ما أملك وهم من ريحة ابني الوحيد، لن أدعهم يحتاجون أحد ما دمت على قيد الحياة”.
وقال الناشط الإعلامي محمد العبد القادر في حديثه عن معاناة المسنين في ظل الحرب: “في البداية كانت معاناة المسنين معاناة نفسية من تبعات الحرب وويلاتها، وتفاقمت مع فقدان عدد كبير منهم لعائلاتهم ترافقا مع حالة النزوح والهجرة، وبُعد هؤلاء عن منازلهم وأرزاقهم التي تمثل حصيلة تعب كل السنوات الماضية بالنسبة إليهم.. هذا البعد والحرمان أديا إلى حالات وفاة كثيرة جدا ضمن هذه الفئة بأمراض مرتبطة بالحالة النفسية، كالوفاة بالجلطة أو بأمراض القلب.. قتلتهم الحرب دون أن يعتبروا شهداء، وتتمثل المعاناة الثانية في نقص الأدوية وانقطاع بعضها بشكل نهائي، وإن توافرت فبأسعار مرتفعة جدا، ومعظم المسنين والمسنات يعانون من مشكلات صحية وأمراض مزمنة تترافق مع ضيق ذات اليد وعدم القدرة على العمل أو امتلاك مصدر دخل ثابت”.
العربي الجديد