يشغل اسم المفكر عزمي بشارة مساحة يومية من حديث المثقفين، والنخبة السورية عامة، بصفته عاملاً مؤثراً في سيرورة الثورة السورية، ويعود ذلك إلى إدراك دوره، ومتابعة موقفه، الذي يبثه عبر الإعلام من خلال مقابلات تمت عبر عمر هذه الثورة، إضافة إلى علاقاته الشخصية والمهنية مع كثير منهم.
إبّان زيارتي لإسطنبول في السنة الماضية، بعد غربة في هولندا عمرها سبع سنوات، وجدتُ أنه ما من جلسة تتناول الشأن السوري إلا ويحضر فيها اسم الرجل في مساقات مختلفة الأسباب والظروف والتحليلات، ربما الاتهامات أحياناً، التي أصابت كذلك أيّ سوري عمل في الشأن العام وسرديّاته. خاصة أنه اختار منذ البداية الوقوف إلى جانب حركة الشعب ومطالبه، والقطيعة مع رؤية النظام ومنهجيته، مع إدراكه أنه من الأفضل أن يقوم النظام السوري، راسخ الجذور، عنكبوتيّ العلاقات، ذاته بعملية الإصلاح التدريجي، لكن مفردة “الإصلاح” من الصعب أن نعثر عليها في قاموس الأنظمة القمعية البوليسية.
تشير قراءة سريعة لحركة جسد الدكتور بشارة، إبان الحوار الذي أجراه معه تلفزيون سوريا قبل أيام، إلا أنه قلقٌ على الوضع السوري ومساره، بل أعلن أنه خائف على مستقبل الدولة السورية بجغرافيتها الحالية، فحضر تشبيك الأصابع ووضعهما فوق الطاولة، مترافقاً مع حركة الكتفين، وتجنب النظر المباشر. وقد حاولت الإعلامية نور الهدى مراد، أن تحصل منه على المختلف، الذي لم يقله في قنوات أخرى، وكان الرجل واضحاً في إجاباته، وأعاد غالباً التأكيد على عدد من مقولاته التقييمية، التي تتعلق بمسار ثورة 2011، وقد سبق أن قال معظمها أو نشره منذ عام 2015 عبر منصات أخرى، خاصة ما يتعلق بقراءته للفصائل، والأصولية، والتشرذم، وفقدان السيطرة، ومصير النظام، ليس لأن ليس لديه أيّ جديد، بل لأن التغييرات المفصلية في مسار الثورة حدثت منذ سنوات، وقد كرّس عقداً كاملاً من عمره منشغلاً بالثورات والربيع العربي، مقيِّماً ومحلّلاً وشارحاً وواصفاً. وقد كتب كتباً وأبحاثاً، أشهرها (سورية درب الآلام نحو الحرية – محاولة في التاريخ الراهن).
حمل معظم المتدخّلين المباشرين في ساحة قوى الثورة والمعارضة السورية، حقائبهم وأجنداتهم ورحلوا، إما لأن أهدافهم في شرذمتها وتفويت لحظة النصر عليها قد تحققت، أو لانشغالهم بأجندات جديدة، أو لأنه لم يعد فيها ما يشكل إغراء لهم، ربما خيبت أملهم. ولعلها فرصة سانحة اليوم، أمام كثير من السوريين، أن تتمّ تنمية خطاب فكري ورؤيوي يليق بالثورة السورية، ويفرز حالة فكرية ملائمة لها، صحيحٌ أن الزخم الثوري واللحظة التغييرية المفصلية قد فات أوانهما، لكنها تلك سيرة الثورات التي تريد إحداث الأثر، لا بدّ أن تمر بتحولات وتغيرات ولحظات أقرب إلى الخسارة والخيبة أحياناً، إذاً؛ ثمة فرصة استثنائية لدى المؤسسات السورية الفاعلة حالياً لتنتج خطاباً وطنياً، وتعيد النظر في أدوارها، وأن تشتغل وتتعمق لإبراز مساحة المشتركات السورية.
لماذا تمّ تعطيل حزب البعث إبان الثورة السورية؟
يقدّم الحوار مع الدكتور عزمي بشارة رؤى تستمدّ من مراقبة اليومي ورصده وربطه بسياقاته مفتاحاً لها، وهو يستشعر الخطرَ الكبير الذي يهدد الكيان السوري اليوم، حيث صار الموضوع السوري لديه أبعد من انتصار فريق على فريق، وربما إنْ لم تبحث الأطراف السورية اليوم عن المشتركات، فإن الفرصة أكبر لمزيد من التشظي العميق، الذي قد لا يكون ثمة مجال للبحث له عن حلول مستقبلاً، ولعل التجربة العراقية والفلسطينية واللبنانية حاضرة في الذهن وعلى السوريين التعلم من خيباتها!
لذلك يحاول في عدد من أجوبته تفكيك بنية المجتمع السوري، وبنية النظام والدولة السورية ومكوناتها، فيتحدث عن أحد جوانبها من خلال تجربة حزب البعث العربي الاشتراكي ببعده القومي، وتغييب دوره، وإضعاف بنيته، وهو الذي كان يمكن أن يقوم بدور ما على مستوى الحل أو الإصلاح، لكن النظام القمعي فضّل إفساح المجال لظهور قوى سلطة جديدة، عمادُها الكراهية والشرذمة. ولا يمكن لمن يريد اقتراح حلول لمستقبل بلد ما أن يتجاهل بنى الدولة ومؤسساتها الفاعلة القائمة، بل يمكنه وفق قراءة عقلانية أن يعول على دور ما لتلك المؤسسات كان يمكن أن تقوم به، قد يكون في ترشيد صواب صاحب القرار، أو دفعه للمرور بلحظة وعي أو تغيير، أو تشجيعه للوصول نحو أفق انقلاب داخل الحزب المختطف من العسكر منذ نحو نصف قرن، حين تزامن صعود الوجهاء الريفيين مع ترييف الجيش، كما كتب حنا بطاطو في كتابه (فلاحو سورية: أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأناً وسياساتهم). هاهنا يعوّل المفكر على البنى القائمة للدولة أو النظام، ليس بصفتها مفرزاً أخلاقياً ومؤسساتياً للدولة، بقدر كونها بنية تمتلك بعداً تنظيمياً ما، قد يسمح بحدّ أدنى من الأخلاقيات أو المسار أو الدور الإيجابي في مراحل الثورة.
يشير أحد القياديين في فرع جامعة دمشق للحزب في إطار توصيف للمرحلة الأولى من عمر ثورة عام 2011 في سوريا إلى أن عدداً من الرفاق البعثيين قد هبّوا يبحثون عن دور لهم، ويرغبون بتفعيل إيجابي لدور الحزب المستلب، بشكل شبه كامل منذ مجيء بشار الأسد إلى الحكم، وشجعهم على ذلك أن كثيراً من المتظاهرين كانوا ينتسبون إلى حزب البعث لدوافع معيشية أو وظيفية، أو خوفاً من تنكيل أو قمع.
يقول: دَعَوْنا إلى إطلاق حوار وطني للتشارك في الحلول، والإصلاح، والاستجابة لمطالب الشباب السوري… وكنا نحرص كقياديين حزبيين في كلية الآداب في جامعة دمشق مثلاً على أن نمنع أيّ اصطدام بين الشباب المتحمس والجهات الأمنية، لنتفاجأ بقيام اتحاد الطلبة بتشكيل ميليشيا ومعتقل في كلية الطب المجاورة. لتغدو المهمة الرئيسية للقيادات الحزبية هي التوسط لدى تلك الميليشيات، ولدى ذلك “الشاب الأزعر” الذي سلموه قيادتها بميزانية مالية وتعذيبية مفتوحة، لإخراج من لم يقف مع خياره التشبيحي.
يضيف ذلك القيادي: صارت لدى القيادات الحزبية مهمة جديدة، بعد تنحيتها عن أي حلّ، تتمثل في تهريب الفتيات المتظاهرات من الحرم الجامعي، خشية اعتقالهن، وكذلك تحذير الشباب الناشطين من دوريات المخابرات التي ربما ستعتقلهم، إن حضروا إلى محاضراتهم الجامعية.
بدا في تلك اللحظة أن سوريا فيها غرفتا عمليات: غرفة يستقبل فيها الرئيس الوفود ويجزل الوعود، وينصت لممثلي الشعب! وغرفة قريبة في طابق آخر يجلس فيها خبراء إيرانيون، وعسكر من هوية فرعية واحدة يعطون الأوامر للميليشيات والقطاعات “المضمونة” من الجيش لتقوم بما تراه لازماً من قتل وقمع لبقاء النظام البوليسي!
اختار النظام ومستشاروه السريّون ما ظنوا أنه الأصلح لبقائهم، وهو حلّ تغليب دور الميليشيا على دور قوى الدولة الأخرى “الحزب أحدها”، وبالرغم من كل ما مرّ به الحزب من مراحل صعبة ماضية، إلا أنه بقي كمؤسسة مترهلة لها أثرٌ ما، ولو كان هذا الأثر تاريخياً!
يستعمل الدكتور بشارة مصطلحاً معيارياً في توصيف شريحة اجتماعية كُلّفتْ بمواجهة تحركات الشباب الثائر، واصفاً إياها بـ “الحثالة” التي يعدّ الابتزاز أبرز عامل في منظومتها الحياتية، كانت الخطة المخابراتية للنظام البوليسي في الأشهر الأولى تنصّ على أن يقف في وجه أولئك الشباب الثائر تلك الشريحة من العاطلين عن العمل أو أصحاب السوابق أو ممن يعملون في مهن مُهينة اجتماعياً، وخُصِّصَ مستودع مؤسسة الخزن والتبريد في دمشق (حي البرامكة) مثلاً ليكون أحد أمكنة التجمع، حيث تزود تلك الشريحة السلطوية المستحدثة بالأدوات الكهربائية والعصي، وهم الذين لا يملكون أي تدريب للتعامل مع المدنيين، وغالباً هم من غير المتعلمين، وممن يعانون مشكلات اجتماعية وسواها، لكن كل ذلك لا يهمهم ما داموا سيحصلون على مكافآت من “بند الميزانية الخاص بمصروفات رئيس فرع المخابرات” المعني بالمنطقة، تحت إطار “بند المصروفات الشخصية والمتفرقة”.
ومع بداية الثورة تم فتح باب الصرف لهذا البند في الميزانية الجارية في القطاعات، التي تمول من القصر الجمهوري مباشرة، دون المرور بوزارة المالية، كي يغطي مكافآت أولئك “الشبيحة” الذين تطورت بنيتهم التنظيمية وقوتهم العددية، ليصبحوا عماداً لما سمي لاحقاً بـ الدفاع الوطني، إذ أخذت هذه الفصائل الميليشاوية تضم عشرات الآلاف، وصار فيها أنواع ومستويات وتخصصات، ودخل مصطلح “الشبيحة” معاجم الدراسات العالمية في الجامعات ومراكز الأبحاث.
يدرك كثير من متابعي الشأن السوري خطورة إحلال الميلشيات بدل حزب، ذي تاريخ طويل، وطبيعة قومية في الشعار والطروحات على الأقل، وهو الذي كتب منطلقاته النظرية مفكر ماركسي الانتماء هو “ياسين الحافظ”، هذا الحزب الذي تعكز عليه عسكر النظام وسرقوه من المؤمنين بفكره العروبي والإصلاحي منذ حركة شباط 1966 وحوّلوه إلى مطية، ها هم يجمّدونه مع بداية الثورة عن الأثر والفاعلية كلياً، ليُحِلّوا بدلاً منه النظام الميليشياتي وتبعاته.
بالتأكيد من الظلم لكثير من السوريين غير العسكريين، الذين بقوا في حضن الوطن، ألا يكون أمامهم إلا أحد خيارين: إما الميل لحزب البعث وخياراته، أو الانخراط في إحدى الميليشيات التي صارت رمزاً قبيحاً في التاريخ السوري، في ظل إطلاق عنان الخوف كما سماه “زيجمونت باومن” في كتابه الشهير “الخوف السائل”، وتهييجه بين الشرائح الاجتماعية وتضييع بوصلة مصدر الخوف وتمييع طاقاته، ليغدو عملية هيجان مسيطرة تأكل في طريقها كل ما تعتقد أنه سيكون مهدداً لأمنها.
إفراغ الجيش من مضمونه كمؤسسة وطنية
معظم الدول التي انتصرت فيها الثورات ناصر الجيش ثوراتها، أو نحا منحى المراقب الذي يحفظ الأمن، وربما في أسوأ الأحوال لم يقف ضدها. “الجيش السوري” جزء من الوضع السوري المعقد، الذي تتسم به بنية المجتمع السوري، وهذا ما أكده دانييل لوكا في كتابه (سورية الجنرال أسد) حيث أجاد ذلك الجنرال حافظ الأسد، اللعب على الهويات الفرعية.
تحولت كثير من قطاعات “الجيش السوري” إلى قوة ميليشياوية، فئوية، نفعية، فاسدة منذ فترة طويلة، عبر سياسة منظمة لإفراغ هذا القطاع الوطني من مضمونه الأخلاقي والمهني، من ضمن عملية إفساد عالية التنظيم، لكل القطاعات التي تحمل بعداً رمزياً في تشكيل الهوية الوطنية. ومع بداية الثورة السورية زاد ذلك التخريب والتطييف، فافتقد الجيش تطبيق القواعد العسكرية المهنية في التعامل مع المدنيين السوريين، وأمعن في نسيان أن مهمته الرئيسية الدفاع عن البلد، وخيارات المواطنين، وكانت خطة النظام واضحة لوضعه في مواجهة المواطنين، وكذلك إحلال الميليشيات بدلاً منه، أو تحويله هو ذاته إلى مزيد من العمل الميليشاتي، أذكر في هذا السياق أنني مطلع 2012 حاولت إخراج مكتبتي من بلدة معضمية الشام جنوب دمشق، وفيها نحو 5000 آلاف كتاب من بيتي المدمر إلى حي آخر في ضواحي دمشق الغربية، وقد جمعتُ كتبها من مختلف معارض الكتب العربية عبر ربع قرن، فرفض الحاجز الموجود على مدخل البلدة إخراجها، فاصطحبتُ ضابطاً كبيراً من أقاربي كان يشغل موقعاً قيادياً عسكرياً مهماً، ومعه مرافقة كبيرة، إلا أن الحاجز الميليشاوي الموجود في مدخل تلك البلدة رفض تلبية طلب ذلك الضابط الكبير، مما اضطرنا للبحث عن حلول أخرى ناجعة.
لذلك فإن موقف الجيش، بالرغم من الانشقاقات التي حصلت، كان عاملاً مفصلياً في عدم حصول الانتصار المأمول للثورة، ولا سيما عملية التحشيد ذات الطابع الهويّاتي الفرعي، والعصبة الجامعة التي أجاد النظام توظيفها من خلال خبراته التجييشية السابقة.
حدثني، في هذا السياق، قائد فوج في الوحدات الخاصة السورية (وهو قطاع ذو قدرات قتالية عالية) في الشهور الأولى من بداية الثورة السورية، أنه حين دخل ذلك الفوج كلاً من القصير وجسر الشغور ليتسلّم لاحقاً منطقة الزبداني والحدود اللبنانية عامي 2011-2012 كان هناك تعليمات واضحة من قائد الفوج، بناء على التشاور مع قيادة الأركان، ألا يبادر الجيش بإطلاق النار مطلقاً، إلاّ إنْ تعرض لإطلاق نار. يقول: لكنني أتفاجأ ليلاً بحدوث عمليات غير مجدْولة، وبعد بحث دقيق، اكتشفتُ أن هناك تعليمات خاصة وأوامر موازية تصل عبر الهاتف إلى العساكر المنتمين إلى جغرافية محددة، حيث إنهم يبادرون لإطلاق النار دون سبب، وكأنهم يريدون أن يحرجوننا كي ندخل في معارك مع المدنيين، أو ممن بدأ بالتسلح. كان ثمة حرص من قبل النظام ومستشاريه على إشعال فتيل النار وقذف الأمور إلى الأمام، كي ينقطع طريق الإصلاح أو التفاوض، أو البحث عن حلول مما كان يطرحه سياسيو النظام والجامعة العربية وسواها. لا ينكر ذلك الضابط الكبير أن الخوف من الآخر قد يكون أحد أسباب المبادرة بإطلاق النار، وقبل أن يفكر ذلك الضابط بحلّ لمن يخالف أوامره، كان مصيره، خلال فترة قصيرة من تقصّيه عن مصدر الأوامر الموازية، أن يُقال من قيادة الفوج، وينقل إلى قطاع التدريب الجامعي، ويستبدل بضابط ينتمي إلى الكتلة الأكثر حضوراً في الجيش!
الحاجة إلى معارضة مشغولة بسوريتها
يربأ الدكتور بشارة بالمعارضة الوطنية السورية أن تتبنى خطاب النظام، ويرى أن أولئك السوريين الذين قدموا أرواحهم، لم يقدموها من أجل إعادة إنتاج خطاب النظام وأخلاقياته، ويقدم نقداً لاذعاً للمستزلمين من المعارضين، لأن طالب الحرية لا يليق به الاستزلام لأحد، أو التبعية، يمكنه بالتأكيد أن يعقد تحالفات، أو يبحث عن مصالح قضيته لدى من يهمهم الأمر. ويطمح إلى وجود مؤسسات معارضة تفترق، على الأقل أخلاقياً، عن مؤسسات النظام وينتقد ما تعانيه بعض تلك المؤسسات من أمراض تتمثل في: غلبة الشلة، والشخصنة، موضحاً أنّ هذه الآلية في التفكير هي التي ستساهم في إعاقة الحلول في سوريا، خاصة أن هناك حضوراً جارفاً لقوة السلطة على أداء المؤسسة وتنظيمها، ومن هنا -على سبيل المثال- لم يقبل كثير من العسكر المعارضين وقادة الفصائل فيما مضى من عمر الثورة الانضواء تحت إطار قيادة سياسية تقود الحل، أو تتولّى التفاوض والحضور الدولي. ولعل ذلك أحد أسباب عدم نجاح الثورة في تحقيق أهدافها، وها هنا يتلاشى حضور مقولة: “لو أراد المجتمع الدولي الحلّ في سوريا لفرضَ الحل الذي يريده”، ذلك أن من خبر دهاليز السياسة سيتساءل عن مصلحة تلك الدول لتفرض الحل المنتظر من السوريين، وما الفوائد التي ستجنيها؟ خاصة أن التجربة تقول أن المجتمع الدولي، الذي لا يجيد معظمه غير لعبة المصالح، لن يدفعه سقوط الضحايا وحده للبحث عن حلّ جذري.
من المؤلم أن تصبح منهجية عمل عدد من مؤسسات المعارضة ذاتها منهجيات عمل النظام، الذي أحلّ التوجيه بدل القانون، وكرّس سلطة الشخص بدل نظام المؤسسة، ومن الضروري الافتراق والاختلاف عن منهج النظام الذي جلب الخراب لسوريا، خاصة أن الحرية والدولة الديمقراطية هي الهدف الرئيس للثورة. غير أن المتابع لمسار الثورة السورية يدرك أن ثقافة التبعية والمصالح والارتزاق، قد نمت عبر عقد من الزمن، في أجواء المعارضة السورية، ومن المهم، مثل أهمية الوقوف بوجه النظام، كشف ذلك الفساد والخراب ومعالجته، وإبداله بثقافة القيم والانشغال بالأهداف الاستراتيجية للشعب السوري، الباحث عن حريته.
حرب أهلية ام دولية؟
الوضع السوري اليوم حمّالُ أوجه: أهو حرب أهلية أم طائفية أم دولية أم إقليمية؟ ما الذي بقي من أخلاقيات الثورة السورية وأدبياتها؟ تتبدّى كثير من مظاهر الحرب الأهلية في سوريا اليوم، وقد استطاع الوضع الدولي والإقليمي والتشرذم المعارضاتي، واختلاف الأهداف تبعاً للإيديولوجيا الناظمة والمؤثرة بالمعارضين (دينية ووطنية وعرقية)، وأساليب النظام الخبير بالألعاب المحلية والدولية، وهو الذي يجيد اللعب في مناطق التحشيد والتجييش، جرّ ثورة 2011 ببطء لتكون في شكل من أشكالها جزءاً من الحرب الأهلية، وفق تعريف علماء السياسة لها. في الوقت نفسه، الوضع السوري اليوم، في أحد وجوهه جزء من صراع دوليّ، وذلك لوجود قوات للقوتين الدوليتين الرئيسيتين، وكذلك جزء من حرب إقليمية لوجود قوات للدول المجاورة الفاعلة.
الجديدُ في تاريخ الحروب أن تلك القوات الأجنبية جميعها تدّعي امتلاكها “الحقيقة السورية”، والبحث عن مصلحة السوريين، وفي الوقت ذاته تقتلهم، وتهجرهم، وتنهب خيرات بلدهم، وتعمل على ضرورة أن يؤمنوا بوجودها وأحقيتها باغتصاب أرضهم، وقرارهم، وهي تكاد لا تشتبك فيما بينها، بل تدعي أنها تحارب الإرهاب والإرهابيين، من خلال مفاهيمها الخاصة للإرهاب، فتقتل شرائح من السوريين، لتحمي السوريين الذين يناصرون خياراتها منهم!
يدرك مؤلف كتاب (المجتمع المدني – دراسة نقدية) جيداً إلى أنه في الحروب الأهلية الكلّ خاسر، فهي الخطر الأكبر حاضراً ومستقبلاً، وأنها فيما لو تغلغلت أكثر ستفتّت الأرض والنفوس السورية، وتخلق وقائع لا يمكن العودة بعد حدوثها إلى ما كان قبله جغرافياً أو اجتماعياً، وأن مصطلحات العدالة الانتقالية أو سواها سيقلّ دورها وأثرها كثيراً، خاصة أن النظام وعدداً من الجهات التي تقف ضده أو معه أو المحايدة، تعتمد على اقتصاد النهب والفساد لتغذية نفسها، وبالتالي شرعت بتكريس منظومة قيمية ومالية تجعل الخطف والتشليح والتهريب ونهب الممتلكات العامة والآثار والنفط وإخراج المعتقلين، أو قضاء حاجاتهم اليومية مصدر ميزانيتها الرئيس.
أما داعمو النظام السوري (الروسي والإيراني) فسيبقون على دعمهم له، لأنه يرمز إلى انتصارهم، ويضمن بقاء أثرهم ومصالحهم، غير مكترثين بتفتّت البنية السورية الاجتماعية والفكرية والحياتية، ولا يزعجهم أن سوريا صارت رمزاً للدولة الأقل أمناً، والأقل تعليماً، ومواطنوها الأكثر لجوءاً، والدولة الرمز في تجارة المخدرات، التي ترعاها الميليشيات التابعة للنظام وربما سواها، وقد باتت الدولة السورية، ذات الاقتصاد المتعدد الموارد تعوّل على اقتصاد التهريب والممنوعات، بعد أن فقدت كل مواردها أو رهنتْها، أو أجّرتها لمن قدم الحماية للنظام البوليسي أو لمعارضيه.
ما هو الحلّ في سوريا؟ هل هو حلّ دولي أم إقليمي أم سوري؟
ما من سؤال يشغل بال السوريين اليوم، معارضين وموالين، في الداخل والخارج، على المستوى الفكري والوطني مثل سؤال: ما الحلّ؟ ما نهاية هذا النزيف السوري؟ ومتى؟
ينطلق الدكتور بشارة في محاولة البحث عن إجابة لهذا السؤال، من فرضية تخطو خطوة بالجدل “الهيغلي” نحو الجدل “الباشلاري” عبر سؤال سالب مضاد: ما الذي يدفع المجتمع الدولي للبحث عن حل؟
“المجتمع الدولي” مصطلح فضفاض، توهم السوريون الثائرون بداية ثورتهم، أنه لا يمكن أن يقبل سقوط هذا الكمّ الكبير من الضحايا، لم يفتْهم أن الدول ليست جمعيات خيرية، وأن السياسة الدولية تقوم على المصالح، غير أنهم لم يتخيلوا أن التغيرات الدولية ومرور الزمن ستضع الملف السوري على رفّ مهمل، ها هي لعبة الوقت وشرائه، التي اتبعها النظام وشركاؤه قد أتتْ أُكلها معه، تلك لعبةٌ تجيدها أنظمة الاستبداد لتطيل عمرها، لا تكترث بما تفقده من أرض أو دور أو وظيفة، تقول في سرها: سيضطر النظام الدولي للحديث والتواصل، لا يشغل بالُ هذه الأنظمة، إنْ تخلت الدولة عن دورها الوظيفي، أو فقدت جزءاً من ترابها، يهمها الانتصار، المتمثل في بقاء رأس النظام والفئة التي التفت حوله.
ربما تبرز ضرورة وجود سيناريو لحلّ مرحلي، كخطوة أولى على المستوى السوري، يتمثل في إحياء منظمات المجتمع المدني، التي تتكئ على تولّد إرادة سورية نحو ذلك، ترى في هذا النمط أحد ألوان المشي نحو المستقبل. ولا بدّ من البناء على التحولات التاريخية في الحراك السوري، ونقلها من ميكانيك التنافر نحو حالة من الانسجام التوافقي، الذي يبحث عن مشتركات مع السوري الآخر، وتأجيل الحديث عن المختلفات.
ويعاود الدكتور بشارة مطالبة السوريين بما طالبهم به المجتمع الدولي قبل سنوات، بضرورة وجود بديل عن حكم الأسد يكون مقبولاً على المستوى الدولي، ستأتي لحظة حاجة له. لذلك فإن المعارضة السورية، مطالبة كما يرى بأن تُوجِد مظلة سورية واحدة، تشكل حالة رمزية، أول خطواتها: مؤتمرات تجمع منظمات المجتمع المدني الحالية، يجمعها هدفان رئيسيان: وحدة الجغرافيا والدولة السورية، ومركزية النظام التعددي الديمقراطي، لعل تلك الخطوة/المظلة تكون بداية إنتاج ديمقراطية تقود إلى “تدفق السلام، وترسي ثقافة حل النزاع سلمياً وإنشاء روابط أخلاقية، وتبادل المنافع المشتركة بتعبير الفيلسوف كانط” كما يقرؤه غيورغ سورنسن في كتابه “الديمقراطية والتحول الديمقراطي- السيرورات والمأمول في عالم متغير”.
معظم السوريين اليوم ينتظر حلاً يقدمه “بابا نويل الدولي”، وعدد كبير لا يزال غارقاً في أوحال لحظة الانتقام والثأر، أو ممن ينظر إلى الدولة السورية كـ غنيمة، بتعبير برهان غليون، في كتابه (عطب الذات – وقائع ثورة لم تكتمل) ولا بدّ للذات أو جماعتها من أخذ حصتها من تلك الغنيمة، كثيرون لايزالون أسرى صدمة الذي حدث في سوريا وما آلت إليه، وهو لا يزال يعيش “خارج المكان”، يخشى أن يعيش في عالم منسي، كما سبق أن عاش هذا الشعور ودوّنه كتجربة موجعة المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد
يثبت ميشيل سورا في كتابه “سورية الدولة المتوحشة” نقلاً عن مرجع آخر، مقولة شائعة عن السوريين، على صعوبة التعميم وعلّاته، أطلقها الرئيس السوري شكري القوتلي الذي همس في أذن جمال عبد الناصر، إبان تنحيه وتسليمه الحكم عام 1958: “ستجد أن حكم سوريا صعب جداً. فأنت تستقبل شعباً يعتقد كل أفراده أنهم سياسيون، ونصفهم يعتقد أنهم زعماء قوميون، والربع أنبياء، والعشر على الاٌقل آلهة”! لعلّ مرور أكثر من 60 عاماً على تلك المقولة لم يبطل مفعولها بعد، وقد لا تزال تنطبق على كثير من السوريين، المهتمين بالشأن العام عام 2021.
يراقب كثير من السوريين بألم شديد، اليوم، كيف تتحول ثورتهم ومطالبهم في الحرية إلى قضية مساعدات، ولجوء، وورقة لعب بين دول تبحث عن مصالحها، تقلب بلدهم ذات اليمين وذات الشمال، لتمرر مصالحها أو تغير تحالفاتها.
تلفزيون سوريا