شهدت مواقف “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) الجناح العسكري لـ”الإدارة الذاتية لشمالي وشرقي سوريا”، في السياسة الخارجية والداخلية، تحولات عديدة خلال الأشهر القليلة الماضية، وخاصة في ظل الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وإعلان فوز الرئيس الأمريكي الجديد، جو بايدن.
أبرز تلك التحولات كان اعتراف “قسد” بوجود مقاتلين تابعين لحزب “العمال الكردستاني” (PKK) في سوريا، وإبداء الاستعداد للمرة الثانية خلال العام الحالي للتفاوض مع تركيا دون أي شروط مسبقة، في ظل غياب ردود رسمية من أنقرة تجاه التصريحات التي حملت تلك التحولات في المواقف.
مقاتلو حزب “العمال” موجودون في سوريا
في مقابلة أجراها مع منظمة “مجموعة الأزمات الدولية”، منتصف أيلول الماضي ونُشرت في 25 من تشرين الثاني الحالي، أقر قائد “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، مظلوم عبدي، بوجود مقاتلين تابعين لحزب “العمال الكردستاني” (PKK)، المصنف دوليًا كحزب “إرهابي”، في مناطق شمال شرقي سوريا، قدموا للقتال في المعارك ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”.
وتصنف كل من الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي وتركيا وإيران وسوريا وأستراليا حزب “العمال الكردستاني” كمنظمة “إرهابية” على لوائحها، بينما رفضت الأمم المتحدة ودول أخرى، كروسيا والصين، تصنيف الحزب كذلك.
وتحدث عبدي عن وجود شخصيات غير سورية مدربة من قبل حزب “العمال الكردستاني” في شمال شرقي سوريا بشكل واضح، وآلاف من مقاتلي الحزب الكرد المدربين، قُتل منهم المئات في المعارك، وغادر بعضهم، وبقي آخرون وسعى العديد منهم إلى حياة مدنية، موضحًا أن عملية انسحاب المقاتلين غير السوريين من مواقعهم الحالية، وفي النهاية من سوريا، بدأت بشكل تدريجي، وتستمر مع عدم الالتزام بجدول زمني لانسحاب المقاتلين بالكامل، ويجري ذلك بوساطة أمريكية، ومحادثات مع المجموعات الكردية الأخرى، بما فيها “المجلس الوطني الكردي”.
وبحسب منظمة “مجموعة الأزمات الدولية”، يُشار إلى مقاتلي حزب “العمال الكردستاني” الموجودين في سوريا محليًا باسم “الكوادر”، ويضمون كردًا غير سوريين من جميع أنحاء المنطقة، بالإضافة إلى كرد سوريين خدموا في صفوف حزب “العمال” قبل عودتهم إلى سوريا بعد عام 2011، بينما يخدمون حاليًا داخل فصائل “وحدات حماية الشعب” الكردية (YPG)، والهيئات المحلية والسياسية والأمنية والإدارية التابعة لها.
وقالت المنظمة، إن بعض السكان المحليين في مناطق شمال شرقي سوريا يرون أن “الكوادر” تمثل هيكل “سلطة الظل” التي تتخذ القرارات النهائية دون الرجوع إلى الكيانات الحاكمة المحلية، خاصة عندما يتعلق الأمر بالأمن، مشيرة إلى أن قدرًا كبيرًا من السرية أحاط بهوية “الكوادر” ودورهم، لكنه كان من الصعب الحفاظ على سريتهم في المناطق العربية على وجه الخصوص، بسبب أن لهجتهم وأسلوب لباسهم وطريقة تصرفهم “غريبة”.
الباحث المختص في شؤون شرق الفرات، بدر ملا رشيد، قال لعنب بلدي، إنه من المبكر الحكم على مآلات تصريح مظلوم عبدي فيما يخص الاعتراف بوجود عناصر تابعين لحزب “العمال الكردستاني” في سوريا، إلا أنه بالتأكيد يُعتبر أحد مداخل البحث عن حل “أهم” ملف إشكالي في شمال شرقي سوريا، وهو المتعلق بالعناصر الأجانب التابعين لحزب “العمال الكردستاني”.
ولا يمكن حل أي إشكالية في حال إنكار وجودها، بحسب ملا رشيد، وهو ما دأبت عليه “الإدارة الذاتية” وحزب “الاتحاد الديمقراطي”، لذا فالتصريح من حيث المضمون رسالة مباشرة من مظلوم عبدي، ومن الجانب الأمريكي أيضًا، بجهوزية “قسد” لدفع العناصر الأجانب إلى خارج المنطقة.
وأضاف ملا رشيد أنه لا يمكن ربط مواقف عبدي بشكل كامل مع الانتخابات الأمريكية، بالأخص فيما يتعلق بالتفاوض مع تركيا، فخلال عملية “نبع السلام” التركية، وما سبقها من اتفاق “واشنطن- أنقرة” حول المنطقة الآمنة، ظهرت إشارات وتعليقات مشابهة من مظلوم عبدي، وكانت إحدى الخطوات باتجاه تقبل واقع الهواجس التركية من وجود عناصر “حزب العمال” في شرق الفرات.
وبعد توقف العملية، ومع بدء المفاوضات الكُردية البينية، أدلى عبدي بتصريحات مشابهة للتصريح المتعلق بالتفاوض مع تركيا، الذي يأتي ضمن سياق إدراكه حقيقة الوقائع على الأرض، وسياق الضغط الأمريكي المستمر بهذا الاتجاه.
الاستعداد للتفاوض مع تركيا
أبدى مظلوم عبدي استعداده لإجراء محادثات سلام مع تركيا مرتين، خلال العام الحالي، إذ أعلن، في كانون الثاني الماضي، استعداد “قسد” لخوض مفاوضات مع تركيا، لتخفيف التوتر السائد بين الطرفين منذ سنوات، في حال كانت تركيا جادة في ذلك، مؤكدًا قيام قواته بما وصفها بـ”إشارات لبناء الثقة وحسن النية”.
وجدد عبدي حديثه عن المفاوضات مع تركيا، دون أي شروط، في تشرين الثاني الحالي، خلال مقابلة أجراها مع موقع “المونيتور”، إذ لا يمانع التفاوض في حال كانت تركيا مستعدة لاتخاذ خطوات مع وضع حل حقيقي في الاعتبار، وإذا كان هذا الحل لمصلحة سكان مناطق “روج آفا”، وإذا طُرحت جميع القضايا العالقة على الطاولة، بحسب قوله، مشيرًا إلى أنه قد يفكر في التوسط بين تركيا وحزب “العمال الكردستاني” (PKK)، بعد حل المشاكل مع تركيا.
لكن عبدي لم يستبعد شن تركيا هجومًا عسكريًا جديدًا على مناطق “الإدارة الذاتية”، لأنه يعتبر أن فرص شنها لهجوم عسكري ليست معدومة، وإنما قُلصت بشكل كبير.
وتصر أنقرة على أن “وحدات حماية الشعب” (الكردية) امتداد لحزب “العمال”، المصنف إرهابيًا، ولا تترك الرواية الرسمية بابًا للتفاوض مع من تصفهم بـ”الإرهابيين”.
ويرى عبدي أن فوز الرئيس الأمريكي، جو بايدن، قد يؤدي إلى تغيير في سلوك أنقرة، إذ إن خيارات تركيا ستتقلص، ولم تعد الظروف تفضل استمرار موقفها “العدواني”، في ظل حكم الإدارة الأمريكية الجديدة، بحسب تعبيره.
واعتبر أن نجاح المحادثات مع “المجلس الوطني الكردي” وعمل جميع الأحزاب الكردية معًا، سيكون له تأثير إيجابي على علاقة الأحزاب الكردية مع تركيا، ومن شأنه أن “يسلب تركيا أعذارها لاستمرار عدائها لهم”، بحسب ما أضافه، كما سيفيد كلا الجانبين اقتصاديًا.
مضاعفة أعداد القوات الأمريكية
واعتبر عبدي أن نجاح تلك المحادثات سيسهل على الأمريكيين البقاء في مناطق شمال شرقي سوريا، مطالبًا الولايات المتحدة الأمريكية بإرسال ضعف عدد قواتها الحالي إلى سوريا، إذ انسحبت قوات التحالف الدولي من مناطق معينة، منها الرقة ومنبج وعين العرب، لكن الحملة ضد تنظيم “الدولة” مستمرة، وفي ظل الظروف الحالية يمكن السيطرة على التنظيم ولكن لا يمكن القضاء عليه.
وبعدما أعرب عن تفاؤله بالإدارة الأمريكية الجديدة، إذ يرى أنها ستتبع سياسة “أكثر واقعية” في مناطق سيطرة “الإدارة الذاتية”، توقع منها الإبقاء على قوات التحالف الدولي في سوريا حتى يتم التوصل إلى حل سياسي للمنطقة ولكل سوريا، مشيرًا إلى أن العلاقات العسكرية مع الولايات المتحدة “جيدة جدًا”، لكن العلاقات السياسية غير كافية، ولم تصل إلى المستوى المطلوب رغم كل الجهود.
وفيما يتعلق بالإدارة الأمريكية الجديدة، يعتقد الباحث المختص في شؤون شرق الفرات بدر ملا رشيد أن “الإدارة الذاتية” ترى في وصول بايدن أفضل مما كان عليه الوضع في وقت الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب.
وذلك لأن الأخير لم يكن يلتزم بسياسة مؤسساتية فيما يتعلق بشمال شرقي سوريا، أما بايدن ففي أسوأ احتمالاته بالنسبة لـ”الإدارة الذاتية”، سيقدم على خطوات ميدانية متسقة مع سياسة المؤسسات الأمريكية الموجودة في المنطقة.
تقارب كردي- كردي
خلال مقابلته مع موقع “المونيتور”، في 9 من تشرين الثاني الحالي، لفت عبدي إلى التوترات بين حزب “العمال الكردستاني” والحزب “الديمقراطي الكردستاني” (أكبر الأحزاب العراقية).
وأكد رفض “قسد” و”الإدارة الذاتية” الانحياز لأي طرف، والإدلاء بتصريحات سواء لدعم أو ضد الحزب “الديمقراطي”، مؤكدًا أن استمرار التوترات بين الحزبين ستسبب ضررًا على تحسين العلاقات بين حكومة إقليم كردستان العراق و”الإدارة الذاتية”، لأن صراعًا كهذا يضر بالحوار المستمر بين الكرد السوريين، وهذا ما يدفع “الإدارة الذاتية” للتقليل من تلك التوترات.
وذكر عبدي أن مناطق شمال شرقي سوريا يجب أن تُدار من قبل الكرد السوريين، مشيرًا إلى أن أي إدارة ستدير المنطقة يجب أن تُشكَّل من كرد سوريين فقط، ويجب على الكرد وحدهم اتخاذ القرارات “بشفافية”، لذلك لا يعارض إدارة “المجلس الوطني الكردي” للمنطقة، في حال كان “صادقًا حقًا” بشأن إدارتها ذاتيًا دون أي تدخل خارجي.
وكان عبدي أطلق، بعد العملية العسكرية للمعارضة السورية المدعومة تركيًا (نبع السلام) شرق الفرات، في تشرين الأول 2019، مبادرة للحوار الكردي- الكردي، بين حزب “الاتحاد الديمقراطي” الذي يشكل نواة “الإدارة الذاتية”، والمدعوم أمريكيًا، و”المجلس الوطني الكردي” المقرب من أنقرة وكردستان العراق، والمنضوي في هيئات المعارضة السورية، وتوصل الطرفان إلى مجموعة من التفاهمات لكن دون التوصل إلى اتفاق دائم حتى الآن.
ووجدت “الإدارة الذاتية” و”قسد” نفسيهما أمام معارك مع تركيا أدت إلى خسارة نسبة كبيرة من الأراضي التي كانوا يسيطرون عليها وبالأخص في المناطق الكردية، وهناك تهديدات تركية مستمرة، مع احتمال حدوث عمليات أخرى، لذا فإن إحداث تغييرات حقيقية ضمن “الإدارة الذاتية” هو الأمر الوحيد الممكن وضعه كورقة لإيقاف عمليات عسكرية مستقبلية، والدخول في العملية السياسية السورية المعترف بها دوليًا، وفقًا للباحث بدر ملا رشيد.
المصدر : عنب بلدي