د.بلال تركية
للمرة الثالثة، يتم التأكيد على مسؤولية نظام الأسد في استخدام الأسلحة الكيميائية المحرمة دولياً ضد المدنيين العُزّل في سوريا، وذلك بحسب التقرير الثالث لفريق التحقيق وتحديد الهوية IIT التابع لمنظمة حظر الأسلحة الكيمائية OPCW والمعني بالتحقيق في حوادث استخدام الأسلحة الكيمائية في سوريا، والذي صدر في لاهاي يوم الجمعة 27 آب (أغسطس) 2023. التقرير الذي استغرق العمل عليه عامين تقريبا، ركّز على الهجوم المرتكب في 7 نيسان/أبريل 2018 والذي استهدف مدينة دوما المحاصرة. فقد خلص التقرير إلى أن طائرة هليكوبتر واحدة على الأقل تابعة لجيش النظام والتي عملت تحت قيادة ما يُعرف باسم (قوات النمر) قامت بإسقاط اسطوانتين تحمل غاز الكلورين السام بتركيز عالٍ على مبنيين سكنيين في منتصف المدينة. مما تسبب في استشهاد 43 شخصاً تم توثيقهم بالأسماء، وإصابة عشرات آخرين.
وبهذا الصدد نعبر عن شكرنا وتقديرنا للبيان الصادر عن وزارة خارجية دولة قطر والذي عبر عن دعم دولة قطر للجهود الدولية لمحاسبة النظام الأسدي على استخدامه للأسلحة الكيماوية في دوما. ونحن على ثقة كاملة في ثبات الموقف السياسي والأخلاقي لدولة قطر وجهودها المستمرة تجاه القضية السورية. حيث جدد بيان وزارة الخارجية القطرية التأكيد مرة أخرى على المواقف الثابتة والمبدئية لدولة قطر في الوقوف إلى جانب أشقائهم في سوريا واتخاذ مواقف قاطعة ضد الجرائم المروعة والمجازر التي ارتكبها نظام الأسد بحق المدنيين الأبرياء. كما عبّر البيان عن القيم الأخلاقية لدولة قطر التي تقف إلى جانب العدالة ودعمها لجهود المساءلة الدولية.
كما ندعو أشقاءنا وأصدقاءنا إلى تبني مواقف مماثلة لدولة قطر، والعمل على توحيد الجهود لضمان المحاسبة والمساءلة، والعمل من أجل حل سياسي في سوريا وفقًا لبيان جنيف (1) وقرار مجلس الأمن رقم (2254). حيث إن السوريين عازمون على تحقيق مطالبهم المشروعة في الحرية والكرامة في سورية موحدة ومستقرة وآمنة.
*أدلة دامغة وشهود عيان
التقرير، والذي جاء في 139 صفحة، خلص إلى هذه النتائج بعد استيفاء التحقيق في كل الأدلة والنظر في شهادات الشهود وبالاستناد إلى المنهجيات المعتمدة لدى المنظمة. ونظراً لمحاولات التشكيك بهذه النتائج، فقد استرسل التقرير في سرد أدق التفاصيل حول آليات العمل والتوصل إلى الاستنتاجات. إذا ذكر التقرير أن آلية عمل الفريق IIT شملت التدقيق في المعلومات التي تم الحصول عليها من بعثة تقصي الحقائق FFM والدول الأطراف في الصراع، والاستماع إلى إفادة 66 من الشهود، وتحليل بيانات من 70 عيّنة. كما شملت أيضا تحليلاً لصور الأقمار الصناعية ومقاطع الفيديو والصور الموثقة، كما أجرت نمذجة لمحاكاة سقوط الأسطوانات، فضلاً عن استشارة الخبراء والمتخصصين في الطب الجنائي. وقد قام الفريق، بحسب التقرير، بمراجعة 19,000 ملف تجاوزت مساحتها 1.86 تيرابايت من البيانات. ويتم الإشارة إلى هذه المنهجيات والجهود المستفيضة بما لا يدع مجالاً للشك أو الطعن في دقة مخرجات التقرير. ويمتلئ التقرير بإشارات واضحة إلى عدم تجاوب الجهات المعنية في نظام الأسد مع طلبات فريق التحقيق، وهي استراتيجية لطالما برع فيها هذا النظام، حيث يعمد إلى المراوغة والمماطلة، بهدف تعطيل المسارات القانونية.
ولا يفوتنا، في معرض الحديث عن هذه الآليات الدولية، أن نتقدم بالتقدير والاحترام للأبطال المجهولون من السوريين الذين عملوا وراء الكواليس لحفظ الأدلة ونقلها، إذ تعمدت قوات النظام بشكل متكرر طمس الأدلة وإخفاءها، إلا أن الفرق الطبيّة العاملة في الميدان تنبهت إلى ضرورة توثيق الجرائم وجمع الأدلة، وخاطروا بحياتهم لنقلها معهم خارج مناطق الهجوم لتصل إلى أيدي المحققين الدوليين. كما لا يمكن أن ننسى جهود الشهود الذي تعرضوا لضغوط شديدة لكي يعدلوا عن البوح بالحقيقة، إذا قام النظام مراراً وتكراراً بترهيبهم والضغط عليهم، مستخدماً في ذلك أساليب ابتزازهم بإلحاق الأذى بأحبتهم من أقاربهم الذين ما زالوا في متناول أيدي عناصر مخابرات الأسد. إن هذه الشجاعة المطلقة والجهود الفريدة، جاءت إيماناً من السوريين بضرورة تحقيق العدالة والانتصار لإرادة الحرية والكرامة.
ويمكن اعتبار هذا التقرير الصادر حديثا أنه خطوة صغيرة نحو تحقيق العدالة الدولية، إلا أن الطريق ما يزال طويلاً. إذ إن ولاية أو نطاق اختصاص فريق التحقيق وتحديد الهوية IIT محصور بتقصي الحقائق. فهو ليس هيئة ملاحقة قضائية أو كيان قضائي، كما أنه ليس مسؤولاً عن تحديد المسؤولية الجنائية للأفراد أو المنظمات أو الدول. ولذلك فإن الخطوات التالية، على الساحة الدولية، يجب أن تكون عبر تفعيل آليات المحاسبة الدولية، مثل محكمة العدل الدولية، في استخدام نتائج هذه التحقيقات، وتتبع سلاسل القيادة ضمن جيش النظام، والبدء بمحاكمات ضد من تجاوزوا كل الأعراف والقوانين الدولية، وبصورة تثير الاشمئزاز في النفس البشرية السوية. كما أن هذه النتائج يجب أن تعيد للأذهان، أن المجتمع الدولي يجب أن يحرص على مثول المسؤولين عن هذه الجرائم أمام القضاء، وتلقيهم الجزاء العادل، وفاء لأرواح الأبرياء التي أزهقوها، ولا تزال أيديهم تقطر دماً. كما لا يمكن القبول بأي مبررات تدعو إلى إقامة علاقات مع مثل هؤلاء، فهم وصمة عار في جبين البشرية، وجرح غائر في ضمير الإنسانية.
غير أن نتائج هذا التقرير لم تفاجئ أحداً، فقد أعاد التقرير التأكيد على حقائق يعلمها الجميع منذ البداية، وإنما وضعت ما هو معروف للجميع في إطاره الجنائي. وكان التقرير الثاني للفريق، والذي صدر في 12 نيسان (أبريل) 2021، توصل إلى أن طائرة خاضعة لسيطرة “قوات النمر” ألقت بإسطوانة واحدة تحتوى غازاً ساماً على الأقل وذلك في هجوم نظام الأسد على مدينة سراقب في 4 شباط (فبراير) 2018، مودية بحياة 12 شخصاً معروفين بالاسم. وبشكل مماثل، فإن التقرير الأول الذي أصدره الفريق في 8 نيسان (أبريل) 2020، حمّل قوات جيش النظام مسؤولية ثلاث ضربات كيمائية في مدينة اللطامنة في ريف حماة، والتي وقعت في شهر آذار (مارس) 2017. كما أن النتائج التي تمحور حولها التقرير لا تختلف جوهرياً عما توصلت إليه تقرير المخابرات الفرنسية والذي أتيح للعلن بتاريخ 14 نيسان (أبريل) عام 2018، أي بعد أسبوع فقط من الهجوم.
فلم يكن خافياً على أحد أن هذا النظام لم يتورع عن استخدام شتى صنوف الإجرام تجاه الشعب السوري، في محاولة مستميته لكسر شوكة الشعب، وخنق صوته الهاتف بالحرية. فقد حمل السوريون في ذاكرتهم وعلى امتداد العقد الماضي العديد من الصور المؤلمة، فما تكاد تنتهي مأساة حتى تبدأ أخرى. ولا تزال العديد من هذه المشاهد حاضرة في أذهان السوريين، وهم يشاهدون طائرات – دفعوا أثمانها من جيوبهم لكي تحميهم – وهي تُغير فوق رؤوس الآمنين وتفنن في أساليب الدمار والتخريب. ومن بين تلك الجرائم الوحشية، احتلت مجازر الأسلحة الكيمائية حيزاً خاصاً من اهتمام المجتمع الدولي. إذ يتذكر العالم بكل أسى صور الأطفال يختنقون بغازات سامة، وسط ذهول الأمهات، وعجز الكوادر الطبيّة من هول الفاجعة. وقد بدأ النظام هذه الهجمات في 21 آب/أغسطس 2013 على الغوطة، متحدياً بذلك الخط الأحمر الذي وضعه أوباما في حينه. ويمكننا القول بأن غياب المساءلة عن مجزرة الغوطة أعطى إشارة بأن الخط الأحمر تحوّل إلى ضوء أخضر. فمنذ العام 2011، تم تنفيذ أكثر من 336 هجوما بالأسلحة الكيمائية في سوريا، وفي هجمات الغوطة وحدها، ارتقي أكثر من 1,400 شهيد من المدنيين.
لقد أصبح نظام الأسد موسوما بكل الأوصاف التي تناسب المجرمين، حيث أصبح يدعى (نظام الكيماوي) أو (نظام الكبتاغون). فهو لم يكتف فقط بارتكاب الجرائم ضد أبناء سوريا، بل تعدى أذاه إلى كل شعوب المنطقة، حيث بات خبر القبض على كميات مهربة من المخدرات بأنواعها الخبيثة هو خبر متكرر على صفحات الأخبار. إن هذا النظام وعصابته بات مصدر إزعاج وقلق للمنطقة والأمن والسلمي الإقليميين، وعلى الجميع ألا يدخر جهدا في إيصالهم إلى منصات القضاء الدولية، وبذل كل ما هو ممكن لزيادة عزلته ونبذه من كل منصة وفضاء. ولا جدل بعد كل ما تقدم أن التطبيع مع هكذا نظام لهو خطأ جسيم ولا يمكن إلا أن يعود بالضرر والأذى للجميع. ويتساءل السوريون بدورهم: متى يتحرك المجتمع الدولي لمحاسبة المجرمين وتحقيق العدالة؟
الشرق القطرية