وفاة المفكر الإسلامي السوري جودت سعيد.. غاندي العرب ومؤسس نظرية “اللاعنف”

توفي فجر اليوم الأحد، المفكر السوري البارز الشيخ جودت سعيد، في منفاه بإسطنبول في تركيا، عن عمر ناهز 91 عاماً.

وأفاد الحساب الرسمي للشيخ جودت سعيد على موقع “فيسبوك”، أنه توفي اليوم الأحد، دون تحديد موعد ومكان الجنازة.

كانت قضايا الاعتدال والتسامح ونبذ العنف من أبرز القضايا التي شغلت بال المفكر الإسلامي السوري جودت سعيد على امتداد حياته، حتى عُرف بأنه “داعية اللاعنف في العالم الإسلامي” أو “غاندي العرب”.

ويعد الشيخ جودت سعيد من مؤسسي نظرية “الإسلام اللاعنفي”؛ حيث لم يشهد التاريخ الإسلامي، نشوء جماعة تدعو إلى عدم مشروعية العنف حتى لو كان دفاعاً عن النفس قبل المفاهيم التي تحدث بها وناقشها المفكر السوري سعيد بهذا التوسع والبحث.

من هو جودت سعيد؟

ولد الشيخ جودت سعيد في قرية “بئر عجم” التابعة لقرى الجولان في محافظة القنيطرة جنوبي سوريا عام 1931، وهو من أصول شركسية، ويتحدث اللغة الشركسية إلى جانب العربية.

و”الشركس” هم من شعوب بلاد القوقاز الذين ارتكبت الإمبراطورية الروسية بحقهم مجازر دفعتهم للهجرة من مدنهم وقراهم باتجاه أراضي الدولة العثمانية بما فيها سوريا في منتصف القرن الثامن عشر.

درس جودت سعيد الابتدائية في القنيطرة، ثم أرسله والده إلى مصر لاستكمال دراسته في “الأزهر الشريف” بالعاصمة القاهرة عام 1946، وهناك أتم المرحلة الثانوية، ثم التحق بكلية اللغة العربية ليحصل على إجازة في الأدب العربي منها.

وبرزت أولى معالم تأثر جودت سعيد باللاعنف أثناء تأديته لخدمته العسكرية خلال فترة الوحدة بين سوريا ومصر (1958 – 1961)، وأثناء تواجده في صفوف الجيش حدثت واقعة الانفصال، وفي الوقت الذي امتثل الجميع لأوامر القادة في قطعته العسكرية، أعلن رفضه ومعارضته المشاركة في أي تحرك عسكري، مما دفع القادة المسؤولين عنه إلى حجزه في الإقامة الجبرية، ولم يغادرها إلا بعد انقضاء الأمر.

عُين سعيد بعد انتهاء خدمته العسكرية أستاذاً في ثانويات دمشق كمدرس للغة العربية، وما لبث أن اعتقل لنشاطه الفكري منذ استلام حزب البعث للسلطة بعد انقلاب آذار عام 1963، وتكررت الاعتقالات أكثر من مرة، ورغم صدور قرارات بنقله إلى مختلف مناطق سوريا إلا أنه لم يترك مجال التدريس إلا بعد أن تم اتخاذ قرار بصرفه من عمله في نهاية الستينيات.

وفي عام 1967 احتلت إسرائيل قريته في الجولان، فانتقل إلى دمشق للعيش فيها، وهناك نشط بشكل أكبر وذاع صيته، وبعد زوال الاحتلال الإسرائيلي عن قريته بموجب اتفاقية فصل القوات بين النظام السوري وإسرائيل عام 1974 عاد إليها وظل هناك يمارس نشاطه في الزراعة وتربية النحل إلى جانب نشاطه الفكري، حتى قيام الثورة السورية في آذار 2011.

d8a7d984d8b4d98ad8ae-d8acd988d8afd8aa-d8b3d8b9d98ad8af.jpg

“نظرية اللاعنف”

الشيخ جودت سعيد تأثر في بداياته بالإخوان المسلمين والتيار السلفي في الوقت نفسه، باعتبارها التيارات الإسلامية الصاعدة في تلك الفترة، إلا أنه تأثر بشكل أكبر بكتابات المفكر الباكستاني الشهير محمد إقبال، وعلى نحو متزايد بالمفكر الجزائري مالك بن نبي (1907 – 1973) أحد أبرز مفكري العالم الإسلامي في القرن العشرين، من خلال بعض كتبه مثل “شروط النهضة” و”الظاهرة القرآنية”، وحظي بلقائه قبل مغادرته مصر في نهاية الخمسينيات.

وعن كتاب شروط النهضة قال جودت سعيد: “قرأته 40 مرة، ودرسته سطراً سطراً 7 مرات”.

كتب الشيخ جودت سعيد آراءه وصاغ أفكاره عن اللاعنف في كتابه الأول الصادر منتصف الستينيات بعنوان “مذهب ابن آدم الأول.. مشكلة العنف في العالم الإسلامي”، حيث ناقش فيه مبدأ اللاعنف وجذريته بالإسلام، معتقداً أن “التوحيد مسألة سياسية اجتماعية، وليس مجرد قضية غيبية ميتافيزيقية إلهية”، بمعنى أن توحيد الله في السماء، يعني المساواة بين البشر على الأرض، فيساوي بين العبارات الثلاث في الآية القرآنية الكريمة: (ألا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله).

كما ركّز في كتابه على مسألة الزيادة في الخلق التي رأى أنها تقوم على قاعدة أن العالم لم يُخلق وانتهى، بل هي مرتبة وجود الشيء كقانون وسنّة حتى قبل وجود العالم بالفعل.

جودت-سعيد-ومالك-بن-نبي-كيوبوست.png
جودت سعيد ومالك بن نبي

خط فكري إسلامي مختلف

ويُعتقد أن جودت سعيد كان يطرح فكراً إسلامياً مختلفاً عن السائد خصوصاً بما يتعلق بـ “العنف” من خلال محاضراته في جامع “المرابط” في دمشق، ومن خلال أول كتبه المنشورة حيث رد على اتجاه الإخوان المسلمين في ممارسة العنف السياسي والتي أخذت بالتصاعد منذ ستينيات القرن الماضي حتى بداية الثمانينيات.

وقد بيّن جودت سعيد في كتابه الفروق بين الجهاد في مرحلة بناء الدولة، وبين الجهاد بعد ذلك، وكان هذا في معرض رده على بعض الشبه المثارة حول فكرة اللاعنف وتناقضها مع الجهاد بمعنى القتال، وهو ما ثبت أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد مارسه أثناء دعوته. ويأتي الجهاد في مرحلة بناء الدولة أو الحكم الراشد أو الديمقراطية جهاداً لا عنفياً حصراً حسب جودت سعيد، فلا يجوز الوصول إلى السلطة والحكم بالقوة وبالسيف، فكل من أخذ بالسيف بالسيف يهلك، والتغيير بالقوة لا يغير المجتمع وإنما يذهب هرقل ويأتي هرقل، ولذلك فقد منع الرسول (صلى الله عليه وسلم) أصحابه من الدفاع عن أنفسهم أثناء وجودهم في مكة، وإنما سمح لهم الجهاد بالسيف بعد أن تشكل المجتمع الراشد في المدينة بدون ممارسة عنف وإنما بإقناع الناس، وعندما يتشكل المجتمع الراشد يصبح من واجبه نصرة المظلومين والدفاع عن سلامته.

ويرى الباحث الأكاديمي عبد الرحمن الحاج أن أهمية كتاب جودت سعيد الأول تكمن في أنها أول رد على كتابات المفكر الإسلامي المصري سيد قطب، التي شكلت الأساس الفكري لحركات العنف الإسلامي.

وأضاف الحاج في كتابه “الدولة والجماعة ..التطلعات السياسية للجماعات الدينية في سوريا 2000 – 2010” أنه “رغم أن كتّاباً آخرين ردوا على سيد قطب؛ مثل حسن الهضيبي المرشد السابق للإخوان المسلمين، في كتابه “دعاة لا قضاة” (1969)، إلا أن رد سعيد كان أكثر جذرية، وتطور فيما بعد إلى مفهوم متكامل أو إلى نظرية”.

jawdatsaeed-adam 001 (1).jpg

6 عقود في نبذ العنف

ولم يتوقف سعيد عند كتابه الأول، فقد تمحورت معظم كتبه ومحاضراته في أنحاء العالم والتي استمرت لقرابة 60 عاماً عن ذات الفكرة، التي تناهض “العنف” وتدعو لرفضه.

ومن أبرز كتبه بخصوص ذلك “حتى يغيروا ما بأنفسهم”، “العمل.. قدرة وإرادة”، “اقرأ وربك الأكرم”، “كن كابن آدم”، “مفهوم التغيير”، وغيرها.

وأكّد سعيد عبر كتبه أن “العلاقة بين العنف والفكر علاقة عكسية طردية، فكلما زاد الفكر وتنور، كلما كشف الإنسان عدم جدوى العنف”.

وقال: “اخترع ديناً وأقنع الناس به وحلال عليك، أما أن تُكره الناس على دين أو فكر أو مذهب، فهذا ضد الله وضد الإنسان وضد الحق، والذي لا يقبل ذلك فهو لا يثق بالله الذي قال (لا إكراه في الدين)، ولا يثق بدين الله أنه حق، ولا يثق كذلك بالإنسان الذي وثق الله به وحمّله الأمانة”.

ولا يخفي الشيخ سعيد إعجابه بالتجربة الديمقراطية في أوروبا وبفكرة الاتحاد الأوروبي، التي لم يستطع المسلمون تحقيق مثيل لها، على الرغم من أن تلك الفكرة تبلورت بعد تاريخ طويل ودامٍ من الحروب والصراعات الأوربية، القومية منها والدينية.

ودفاعاً عن أفكاره وفي محاولة لنشرها اعتباراً من عام 1987 زار جودت سعيد معظم الدول العربية والأوروبية وروسيا وإيران وتركيا إلى جانب كندا وأميركا. وألقى خلال جولاته الكثير من المحاضرات وعقد الندوات في العديد من الجامعات والمراكز البحثية والثقافية.

إقرأ-وربك-الأكرم.jpg

جودت سعيد وسوريا ما قبل الثورة

على امتداد عقود من الزمن لم يكن لجودت سعيد أي منصب رسمي في سوريا، ولم يتمكن من تشكيل جماعة بالمعنى الحرفي تؤمن بأفكاره إلا في مطلع التسعينيات، حيث أنها كانت أقرب إلى التجمع الثقافي منها إلى جماعة، لافتقادها الشكل التنظيمي والحركي الذي تمتعت به الجماعات الأخرى الإسلامية أو العلمانية في سوريا، فكان الارتباط مباشراً بين الشيخ ومعظم تلامذته، ولعل من أبرزهم المفكر السوري “خالص جلبي” و الداعية “حنان اللحام”

ويرى عبد الرحمن الحاج أن “فكر جودت سعيد إذ يبدو إسلامياً تنويرياً دينياً عاماً، إلا أنه في جوهره فكر سياسي. ففكرة “اللاعنف” أصبحت مشروعه منذ مطلع الثمانينيات، وبما أن رئيس النظام السوري حافظ الأسد كان محتاجاً لمفكر يحمل عبء امتصاص فكر العنف الباقي من إرث أحداث العنف في الثمانينيات أو نتيجة العنف المتصاعد نتيجة الظروف والأحداث المحيطة، فقد وجد ضالته في جودت سعيد، حيث كان يسمح، بل يرحب بطريقة ما، بنشر سعيد لأفكاره”.

jawdat.jpg

ومع ذلك بقي سعيد بعيداً عن أي تأييد لنظام الأسد الأب أو الابن، مخلصاً لأفكاره في التغيير ومناهضة العنف، بل بادر لحضور منتديات ربيع دمشق التي شكلتها المعارضة السورية بعد وصول بشار الأسد إلى السلطة عام 2000. وكان أحد الموقعين على “إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي” عام 2005، والذي دعا إلى إنهاء النظام الأمني الشمولي وتغيير الحريات ومنع الحركات المعارضة في البلاد.

الموقف من الثورة السورية

كان الربيع العربي ومظاهراته السلمية، تطبيقاً عملياً لما كان يدعو له جودت سعيد في أفكاره وكتبه ومحاضراته، ولذلك أيده ودعمه، خاصة عندما وصلت رياحه إلى سوريا.

وشارك سعيد في العديد من المظاهرات السلمية عام 2011، وألقى كلمات في اعتصامات ووقفات وخيم عزاء في درعا ودمشق وريفها، مركزاً على أهمية السلمية والديمقراطية في التغيير.

وشارك العديد من تلامذته والمؤمنين بفكره في تنظيم المظاهرات السلمية، مثل “يحيى الشربجي “غياث مطر” (اشتهر الأخير بتوزيع الماء والورود على قوات الجيش خلال المظاهرات) الذين قتلا تحت التعذيب بعد اعتقالهما من قبل قوات الأسد، ليصبحا من أبرز “أيقونات الثورة السورية”.

maxresdefault (1).jpg
يحيى الشربجي وغياث مطر

وفي عام 2011، قال جودت سعيد في حوار صحفي: إن “الشباب هم الذين طالبوا بالديمقراطية والحرية وعدم الإكراه في الدين وليس أساتذتهم، والعالم العربي لا يوجد فيه علماء دينيون علمانيون”، مضيفاً أن أستاذ الجامعة وإمام الجامع لا يؤديان الدور المطلوب منهما.

ويعتقد أنه لو قام الأساتذة بدورهم في تحرير الإنسان لما وجد الاستبداد، ولما كان الحاكم يفرض نفسه “أنا ربكم الأعلى”، والمفروض أن يحتكم للانتخابات وأن يرجع إلى بيته إذا فشل، موضحاً أن قصة فرعون هي أطول قصة في القرآن الكريم، لأنها وثيقة الصلة بواقع السلطة والحكم، وكل الآيات التي وصفت فرعون تنطبق على الديكتاتوريين في العالم العربي.

ومع اشتداد عمليات العنف التي قادها نظام الأسد ضد المدنيين، وبدء عمليات القصف، قتل شقيق جودت سعيد، ما أجبره إلى النزوح إلى دمشق، ومنها سافر إلى منفاه الأخير في تركيا، حيث واصل نشاطه لعدة سنوات عبر المحاضرات وإصراره على المنهج السلمي ونبذ السلاح والعنف.