مالك داغستاني
“ساء وضع كِنّتي فجأة. ارتفاع حرارة شديد وهذيان. كانت تطلب رؤية زوجها (ابني) الذي قتله الطيران الروسي في ريف دمشق. طلبُ رؤية الراحلين لا يبشر بالخير في موروث السوريين. بين توتري ودموع أحفادي، سارعت لإسعاف أمهم إلى أقرب مشفى. كان مشفى خاصاً في “الدانا” شمال إدلب. لم أدرك تبعات اندفاعي هذا إلا عندما وقفت أمام محاسب المشفى. تصوير إيكو وبعض السيرومات. حقنة وريدية لتخفيف التشنج وثلاث علب دواء، طلبوا مني إحضارها من صيدلية المشفى. الفاتورة ثلاثمئة وأربعون ليرة تركية. كنّتي استفاقت، ولكني أنا من دخل في غيبوبة من نوع آخر هذه المرة. يجب تأمين المبلغ، وأنا لا أملك منه إلا خمساً وعشرين ليرة، هو أجر عملي يوم أمس”. كان هذا ما رواه لي نازح في إدلب. طبعاً هناك مئات الآلاف من أمثاله شمال غربي سوريا. فجيعة الرجل من مبلغ الفاتورة لم تكن فيها أية مبالغة، فأجر العامل أقل من دولارين يومياً. كل هذا مع ارتفاع جنوني للأسعار، تسبب به تدهور سعر صرف الليرة التركية مقابل الدولار الأميركي في الفترة الأخيرة.
انتشر منذ فترة قريبة تسجيل صوتي للدكتور حسام قرة محمد مسؤول ملف كوفيد 19 في صحة إدلب، قال خلاله إننا لسنا بمنأى عن تحورات الفيروس الخطيرة، ومع توقف الدعم الدولي عن القطاع الطبي في شمال غربي سوريا، فنحن مقبلون على كارثة إنسانية، وجريمة دولية بحق هذا الشعب. لم يقدم الدكتور حسام في نهاية تسجيله أية إرشادات أو نصائح طبية، ربما لأنه يعلم ثمن الكمامة والكحول في الصيدليات الخاصة، ويعلم أكثر، أن انقطاع الدعم الدولي سيفتح شهية التجار لزيادات أكبر في الأسعار. هل قلت تجار؟ نعم، فالمستوردون للدواء هم ذاتهم من يستوردون التبغ والمحروقات. في تسجيله ذاك لم يقل الرجل “سلّموا أموركم لله”، لكن جميع من استمعوا لرسالته أدركوا هذا المعنى.
صرخة منظمة الصحة جاءت إثر انقطاع الدعم الدولي عن ثلاثة وعشرين مشفى ومستوصفا في شمال غربي سوريا في التوقيت ذاته!
في الخامس من كانون الثاني/يناير لهذا العام 2022، أطلقت منظمة الصحة العالمية صرخة لاستدراك القطاع الطبي في شمال غربي سوريا، وأوضحت في تقريرها أن أربعة ملايين وأربعمئة ألف إنسان مهددون بخسارة حقهم في التداوي والعلاج، منهم مليون وثلاثمئة ألف طفل، ونصف مليون ولادة متوقعة. صرخة منظمة الصحة جاءت إثر انقطاع الدعم الدولي عن ثلاثة وعشرين مشفى ومستوصفا في شمال غربي سوريا في التوقيت ذاته! هل كان الأمر مصادفةً؟ بالتأكيد لا. فالمانحون ينتمون لعدة دول وكيانات ومؤسسات. من الواضح أن الضغوط تتتالى على قاطني شمال غربي سوريا، بدأت بإهمال القطاع التعليمي فالإغاثي، ولعلّ القطاع الطبي ليس الأخير.
مشفى الرحمة في مدينة دركوش ومشفى السلام في حارم. مشفيا المحبة والسلام في عفرين، ومشافي الأمومة في مدن كفرتخاريم وإدلب وكللي. مشفى الإخاء في أطمة. جميع هذه المشافي توقف الدعم عنها. آخرُ المشافي التي انضمت للآفلين مشفى “الرجاء” في قاح شمال إدلب و”إنقاذ روح” في سلقين على الحدود السورية التركية. يا لرمزية تلك الأسماء، لتعلن عن الكارثة الصحية. هل هناك من رجاء في “إنقاذ روح” السوريين هناك؟
نصف مليون ولادة متوقعة هذا العام، بحسب منظمة الصحة العالمية! سيرى بعضهم الرقم كبيراً في ظروف حياة الشمال. وقد يخطر لبعضهم إطلاق حملات توعية تحذر من ارتفاع أعداد الولادات التي لا تتناسب مع انعدام التنمية. إنه مطلب عقلاني لا شك. سمعت من أحد الآباء مرة، أنه يتحصّن في حياته بأكبر عدد من الأبناء خشية موجة جديدة من الإجرام، قد تأخذ معها عدداً ليس بقليل من احتياطي الأطفال الحالي. آلاف حالات الإجهاض سنوياً في شمال غربي سوريا، بسبب سوء التغذية الشديد الذي تعاني منه النساء الحوامل. هذا الإجهاض الجماعي سيصادر أيضاً احتمال الحياة لنسبة كبيرة من النصف مليون المزمعة. برد المخيمات وعصابات تجارة الأعضاء، وطوفان المخيمات شتاء، وانفجار مدافئ الفحم الحجري البدائية وغير الآمنة (الطفلتان لين وانتصار كانتا آخر ضحاياها في 17 كانون ثاني/يناير الحالي). وقد يكون للبحر حصته من الأطفال الحاليين والموشكين، ولبنادق حرس الحدود في دول طريق اللجوء حصة أخرى أيضاً.
في الثاني عشر من كانون الثاني/ يناير لهذا العام أعلن فريق لقاح سوريا أن مرض الحصبة ينتشر في شمال غربي سوريا، وأن عدد الإصابات صار بالآلاف، وقد توفي طفل منذ أيام في عفرين نتيجة الحصبة، ومع انهيار القطاع الطبي فإن عدد الوفيات سيصبح كبيراً. أمام كل هذا الموت المحدق بالأطفال سيغدو الحديث عن التوعية وثقافة الزيادة السكانية المتناسبة مع النمو الاقتصادي ترفاً، بل وربما اعتبره بعضهم، شكلا من أشكال التنمر.
المشفى الوطني في مدينة إدلب هو أكبرُ المشافي في شمال غربي سوريا، من حيث القدرة على استقبال أعداد أكبر من المرضى. رغم وجود الدعم سابقاً، فإن عشرات المرضى كانوا يقفون في طوابير، منتظرين فرصة للحصول على علاج مجاني. سيبدو السؤال عن أحوال هؤلاء غير ذي جدوى بعد أن أعلن المشفى في الثاني والعشرين من تشرين الثاني/ 2021، عدم قدرته على استقبال المرضى باستثناء الحالات الإسعافية الحرجة، نتيجة توقف الدعم. لتغلق بعدها عيادات الأطفال والعظمية والعصبية والداخلية في وجه طوابير من المتألمين.
ستون ألف مريض شهرياً يراجعون المشافي والمستوصفات التي توقف دعمها، بحسب منسقي الاستجابة في سوريا، وهم المصدر الذي أعلن عن خبر توقف الدعم عن ثلاثة وعشرين مشفى ومستوصفا، مشيرين إلى أن الرقم مرشح للزيادة قريبا. فما البديل لدى هؤلاء الآلاف الستين بعد الآن؟ مرضى الشمال السوري لا يعتبرون المشافي الخاصة بديلاً، فهي تتقاضى أجورها بالدولار الأميركي وبأسعار تفوق قدراتهم بكثير. خلال كتابتي لهذه المادة انضم مشفيان آخران في مدينة كفرتخاريم لقافلة المشافي الخارجة عن الخدمة، كانت قد سبقهما مشفى ثالث منذ عدة أيام في المدينة ذاتها. كفرتخاريم (مسقط رأس الزعيم السوري إبراهيم هنانو) تقع شمال غربي مدينة إدلب، ويتبع لها عشرات البلدات والقرى، وعشرات المخيمات على الجبال المحيطة بالمدينة. مَلاكها ثلاثة مشاف توقفت كلها. لم تعد قادرة إلا على استقبال الحالات الإسعافية الحرجة جداً. نعم جداً، هكذا ورد في صيغة البيان. عليك أن تكون قاب قوسين أو أدنى من الموت، لتحظى بميزة دخول مشفى. الآلام المعتادة لم تعد جوازا صالحا للدخول.
مع الكثير من الوجاهة، يتساءل اليوم المهتمون بالشأن العام في شمال غربي سوريا، عمّا يتم تحضيره لهم من سموم في مطبخ السياسة الدولية
“بوتين أوضح المجرمين، إنه يقتلنا علناً، ولا يخفي نيّاته ولا عداءَه لنا. أما البقية فيقتلوننا يومياً، ويزعمون في كل ساعة أنهم أصدقاء” هكذا صرخ نازح كان فقد ركبته قبل سنوات تحت القصف. صرخ من آلام ركبته وربما من حياته، وهو يغادر باب مشفى الرفاه في “جنديرس”. تزداد آلام الرجل مع البرد منذ فقد ركبته. ردّوه عن الباب مع عدّة حبّات “باراسيتامول، فلا مجال لاستقباله في المشفى. وضعه لا يُصَنّف كحالة إسعافية “حرجة جداً”. مع الكثير من الوجاهة، يتساءل اليوم المهتمون بالشأن العام في شمال غربي سوريا، عمّا يتم تحضيره لهم من سموم في مطبخ السياسة الدولية، وعن مدى فظاعة الحلول المعدة لتسويات الوضع النهائي في سوريا، حتى احتاج (أصدقاء الشعب السوري) لكل وسائل الضغط الوحشية تلك.
تلفزيون سوريا