مسرح العبث وفصوله الأممية في سوريا

مرح البقاعي

تحاول موسكو جاهدة إزاحة الملف السوري برمّته باتجاه مسار أستانا ومخرجاته، لتحكم القبضة بشكل قاطع على المجريات الأمنية والسياسية، وتكون كلمتها هي القول الفصل بعيداً عن قبّة الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن والإجماع الدولي على أن القرار رقم 2254 هو السبيل الأمثل لمعالجة الحالة السورية التي تقترب يوماً بعد يوم من الاستعصاء.

أقرّت موسكو موعد الجولة المقبلة من مباحثات أستانا في تاريخ 6-8 تموز/ يوليو المقبل في العاصمة الكازاخية نور سلطان؛ والموعد يقبع بين استحقاقين رئيسين: الأول دعت إليه الولايات المتحدة وينطلق في 28 حزيران/يونيو الجاري في العاصمة الإيطالية روما لبحث آخر المستجدات في الشأن السوري على هامش مؤتمر لقوى التحالف الدولي لمكافحة داعش، والاستحقاق الثاني في نيويورك حيث ينعقد مجلس الأمن في 11 يوليو للتصويت على إعادة فتح المعابر الإنسانية مع الحدود التركية في الشمال السوري.

ومن فتحات ضيقة في أروقة الاستحقاقات الثلاثة تلك تمدّ القمة الأخيرة للزعيمين الروسي والأميركي برأسها بحذر وعصبية لتشي بحالة جديدة من الصراع بين المعسكرين ساحتها هذه المرة تتوزع في جغرافيات متفرّقة من العالم انطلاقاً من أوكرانيا، مروراً بخط الأنابيب نوردستريم 2 الواصل بين موسكو وألمانيا، وصولاً إلى سوريا، وانتهاء بالقطب المتجمد الشمالي ومحاولات روسيا مدّ أذرعها العسكرية هناك في قبالة الحدود الأميركية.

موسكو تدفع باتجاه أن يكون المعبر الوحيد السالك للمعونات مارّاً عبر دمشق حيث تسيطر حكومة الأسد وتتمكن من توجيه تلك المعونات إلى الأماكن التي تقرر بمفردها أنها تحتاج إليها

المواجهة الدبلوماسية المرتقبة بين موسكو وواشنطن ستكون في مجلس الأمن في الموعد المحدّد للجلسة الخاصة بالمعابر السورية. أما قضية المعابر فتعود إلى العام 2014 حين صوّت مجلس الأمن بالإجماع على اعتماد أربعة معابر في الشمال السوري، لتكونَ طريقاً لدخول المساعدات الأممية للسوريين. إلا أن اعتراض روسيا والصين في العام الفائت على متابعة العمل بالنقاط الأربع والاقتصار على معبر واحد واستخدام حق الفيتو لإغلاق تلك المعابر كان سبباً في التضييق على الملايين من السوريين في حاجاتهم المعاشية اليومية.

موسكو تدفع باتجاه أن يكون المعبر الوحيد السالك للمعونات مارّاً عبر دمشق حيث تسيطر حكومة الأسد وتتمكن من توجيه تلك المعونات إلى الأماكن التي تقرر بمفردها أنها تحتاج إليها؛ وهذا يعني في المفهوم “الأسدي” أن تلك المعونات لن تصل إلى من يدعوهم “خونة”، وهم في الحقيقة الضحايا الأسوأ حظاً من أبناء الشعب تم تهجيرهم قسراً نحو الشمال من أجل تحقيق الخريطة الديموغرافية الجديدة لسوريا التي تخدم العقيدة الإيرانية الطائفية وقد بدأت تتجذّر في الشارع السوري المغلوب على أمره.

أما تحركات واشنطن المضادة للغايات الروسية والإيرانية في سوريا فتأتي إشارة واضحة إلى أن إدارة الرئيس بايدن تولي اهتماماً خاصاً للشمال السوري ولأمن المعابر الإنسانية التي تستخدمها الأمم المتحدة لإيصال المعونات الغذائية والدوائية العاجلة لملايين من السوريين في مناطق النزوح المضطربة.

وتعدّ واشنطن المعابرَ الإنسانية إحدى الآليات التي تستخدمها لتعبيرها عن الالتزام أمام الشعب السوري في توصيل ما يحتاجون إليه في حياتهم المعاشية سواء في المخيمات أو المناطق التي ما زالت ساخنة. وعبرت واشنطن عن هذا الالتزام من خلال زيارة ميدانية استباقية قامت بها سفيرتها إلى الأمم المتحدة، ليندا توماس غرينفيلد، في زيارة للحدود التركية السورية أجرت خلالها الاتصالات اللازمة مع كل الجهات المعنية بهذا الأمر، شملت مسؤولين في الحكومة التركية وعاملين في وكالات تابعة للأمم المتحدة ومنظمات إغاثية محلية، ولم تنسَ لقاء مجموعة من اللاجئين السوريين للوقوف على أرض الواقع إلى طبيعة احتياجاتهم في مناطق اللجوء.

هذا كان عن الشق الإنساني في الملف السوري، أما عن الحالة السياسية التي هي أسّ كل ما يستجدّ من قرارت أممية وردود أفعال من الدول المتدخلة في سوريا، والتي تؤثر مباشرة على حياة كل السوريين سواء من بقي في الداخل أو من عبر الحدود إلى الشتات بحثاً عن ملاذ آمن، فهنا تكمن المعضلة الحقيقية وعقدة مسرح “ماكبث” العبثي الذي يختصر طبيعة الشرور الإنسانية في مشاهد مسرحية هي أقرب إلى الواقع السوري منه إلى التخييل الدرامي لأبي مسرح العبث “يوجين يونسكو”!

فلقاء القمة بين الرئيسين بوتين وبايدن، الذي عقدَ العديد من السوريين الآمال عليه، لم يأتِ بحجم تطلعاتهم لجهة حضور قضيتهم كأولوية على أجندة القمة. حضر فقط تساؤل بين الرئيسين الأميركي والروسي عن بدائل لبشار الأسد في حالة إزاحته وإمكانية العثور على ذلك البديل الذي يقارب “الأسطورة” كما أقرأ من حديثهما حول مستقبل الرئاسة في سوريا. هذا اللقاء أضاف إحباطاً على إحباط في نفوس معظم السوريين ولا سيما بعد تمكّن بشار الأسد من تمرير هزلية الانتخابات الرئاسية ونجاحه في الاستمرار على رأس السلطة في دمشق.

ضمن هذه الأجواء العكرة يتحرك الحدث السوري مترنحاً بين القوى العظمى المتقاسمة لمناطق لنفوذ من جهة وبين الحاجة الماسة للشعب السوري في أن يستعيد يقينه بأن هناك عدالة ممكنة في هذا العالم.

في حال إغلاق معبر باب الهوى سيكون الممر الوحيد الأممي للمساعدات الإنسانية هو البوابة الحكومية في دمشق، بكل ما يعنيه هذا الأمر من احتكار ومفاضلة كيدية في توزيع المعونات

فتركيا التي تسيطر على معظم المناطق المحررة في الشمال الغربي السوري تملك النفوذ في إغلاق المعبر الوحيد الباقي وهو باب الهوى وبالفعل أغلقته ليوم واحد من عطلة نهاية الأسبوع الواقعة في 20 حزيران/يونيو الجاري بقرار رسمي من إدارة المعبر. وروسيا تريد إغلاقا كاملا لهذا المعبر الأخير وستعمل على ذلك في جلسة مجلس الأمن المقبلة، ولا سيما أن رئيسها بوتين خرج من القمة الأخيرة في جنيف أكثر اقتناعاً بأنه مفوّض سامٍ لدمشق ومرشد أعلى للسياسات الدولية المرعية في هذا الملف ولا سيما أن سلاح الفيتو بيده ليشهره في أي وقت يحتاج فيه إلى إفشال قرار أممي يعاكس تطلعاته ومصالحه في سوريا وعلى سواحل المياه الدافئة في المتوسط.

في حال إغلاق معبر الهوى سيكون الممر الوحيد الأممي للمساعدات الإنسانية هو البوابة الحكومية في دمشق، بكل ما يعنيه هذا الأمر من احتكار ومفاضلة كيدية في توزيع المعونات بين مؤيد ومعارض، ومناطق سيطرة النظام وأخرى للمعارضة.

وفي ظل ضلوع منظمة الهلال الأحمر السوري في العمل تحت مظلة النظام وغياب الحالة الحيادية المفترضة في عمل المنظمات الإنسانية المستقلة، وفي غياب الرقابة على عدم استغلال هذه المساعدات (في الحالة الافتراضية أنها ستمر حصراً عبر دمشق) أو استخدامها كأداة للتجويع بغاية التطويع كما سبق أن فعل نظام الأسد في مناطق الحصار في الغوطة قبل أن يُهجّر أهلها عن بكرة أبيهم إلى الشمال، ليعود وحليفه الروسي بقطع شريان الحياة عنهم من جديد هناك بعد أن قطّعَ بهم السبل، في ظل كل هذه الأجواء الضبابية الضاغطة تبدو المسألة السورية الراهنة في أضعف حالاتها وتنذر بسوء ما هو قادم في غياب قرار دولي حقيقي بوضح حدّاً لمَشاهِد مسرح العبث الأخيرة التي تدور اليوم في سوريا ورفع السكين عن رقاب ملايين السوريين من ضحايا هولوكست القرن الحادي والعشرين.

تلفزيون سوريا