كل منا يملك قدرات ومهارات لن يستطيع التعرف إليها إلا عند التعرض لظروف معاكسة أو فاضت به متغيرات حياتية، أو رغبة منه بالتجربة. وكثيرا ما تضطر المرأة/ الفتاة السورية، للعمل بغير مجال دراستها إما بدافع الشغف أو بسبب قلة الفرص أو لظروف الحياة التي تزداد صعوبة نظراً لتبعات الحرب وفصول النزوح التي لا تنتهي والتي رتبت على عاتقها مسؤوليات والتزامات جعلت من العمل بأي مجال وجهتها الأولى.
موقع تلفزيون سوريا رصد تجارب مهن لنساء يعملن بغير اختصاصاتهن واختلفت دوافعهن وأولوياتهن لاختيار مناخ مناسب للعمل، لكن القاسم المشترك بينهن يتجلّى في حب التعلّم والعطاء وتطوير القدرات.
فاديا (29عاما)، واحدة من الفتيات التي تعمل بغير اختصاصها درست الكيمياء، جل طموحها العمل في مخبر، لكن الحرب منعتها من استكمال دراستها ولم تتخرج وبسبب الظروف نزحت مع عائلتها من حلب إلى مدينة اعزاز بريف حلب ثم درست بمعهد إعداد المدرسين، وتعمل الآن في مدرسة عثمان بن عفان وتدرس مادة الرياضيات ومعلمة ابتدائي أيضا في مدرسة النخبة النموذجية الخاصة.
تهميش الكفاءات.. بسبب الواسطة
الفرص موجودة ولو أنها قليلة برأي فاديا لكنها مرتبطة بوجود الواسطة، فكثير من الفتيات يمتلكن شهادات دون أن يحصلن على فرصة عمل بسبب غياب الدور الرئيسي المؤهل للوظيفة وهو الواسطة .
وتقول: “أختي مثلاً خريجة جامعة حلب منذ ما قبل الحرب، في كلية التجارة والاقتصاد، وتقيم اليوم في اعزاز. بحثت مطولا على عمل في إحدى المنظمات وتقدمت بطلبات توظيف لأكثر من منظمة ومؤسسة ولم تحصل على قبول، بينما أخريات تمكنّ من العمل بالمنظمات لامتلاكهن فقط شهادة ثانوية وشبكة معارف أو ممن ينتمين لعائلات معروفة” بحسب قولها.
وتلفت إلى أن هذا الكلام لا ينطبق فقط على المنظمات بل على كل مؤسسة أو منظمة. واكتفت بالقول: “ما زلنا في زمن الواسطة متجاهلين أصحاب الخبرة والكفاءة”.
تضيف فاديا: “أحيانًا أفكر بترك عملي والبحث عن شيء أفضل لأن الراتب قليل لكن التعليم أنسب مكان لعمل المرأة بسبب العطلة الصيفية حتى لو كان الراتب بسيطاً”.
فرصة أفضل
“ناهد اليحيى” درست في جامعة حلب أيضاً، قسم الجغرافيا، وعملت في التعليم. وبسبب قلة الرواتب انتقلت إلى مجال “الحماية والدعم النفسي” الذي يعتبر بعيدا عن تخصصها.
بالنسبة لناهد، فقد تجاوزت مسألة تغيير الاختصاص، إذ تقول: “إن أي شخص يعمل في مجال التعليم عندما تأتيه فرصة براتب أفضل.. وضمن أي مجال كان، وخصوصاً في المنظمات الإنسانية على اختلاف أقسامها، فمن المؤكد لن يتردد في ترك عمله الذي يحب لينتقل إلى العمل ذي المردود الأعلى”
التحديات التي واجهت ناهد تمثلت في عدم استكمالها لدراستها بسبب ظروف الحرب في حين أن غالبية المؤسسات بحاجة لشهادة تخرج. حتى وإن حاولت الدراسة من جديد فإن أقساط الجامعة مرتفعة بالنسبة لها ومصروفها كبير أيضاً، وفق قولها.
عدم التكيّف مع التخصص
بينما ريم (25 عاما) طالبة جامعية في قسم الصيدلة مقيمة في اعزاز، وتعمل حاليا متطوعة في المكتب الإعلامي لإحدى المؤسسات ومساعدة إدارية في منظمة إنسانية.
لا تحبذ ريم أن تعمل في مجال اختصاصها لوجود العديد من العقبات. فمشروع استئجار صيدلية أمر مكلف للغاية بالنسبة لها، مضيفة أن وجودها أصلاً في صيدلية خاصة “يعدّ معضلة اجتماعية وأخلاقية للعديد من الأشخاص بسبب الأعراف، خاصة أن المنطقة التي أقيم فيها لا توجد أي فتاة تعمل في صيدلية”.
وتسعى ريم لاستكمال دراستها و”الحصول على الشهادة فقط” بحسب وصفها، مع الاستمرار في عملها الذي تحصل فيه على الدعم والتعاون من فريق العمل وهذا ما ستفتقده إن عملت في تخصصها، وفق قولها.
زيادة المهارات
أما سارة (27 عاما) خريجة معهد هندسي وتقيم في مدينة عفرين، فتعمل مراسلة لدى إحدى الوكالات الإخبارية. تقول إن “من مميزات العمل في غير محيط التخصص هو زيادة المهارات، والخبرة الحياتية غير الموجودة، عندما يعمل بتخصصه، والتنوع في العمل يؤهل الشخص للخوض في أكثر من مجال، ويمنحه الاحتراف لأكثر من مهنة”.
وتردف: “حين تكون مهندسا، فإنك لا تتقن سوى مجالك، أو طبيبا، وبالتالي لن تبرع إلا في مجال الطب، وهذا ما يجعل الخيارات أمامك محدودة، أو منعدمة، خاصة إذا ندُر المجال أو تعطلت فرصه بشكل عام”.
وتعزو سارة أسباب هذا التحوّل إلى الحرب والواقع الأمني غير المستقر “الذي فرض على الشباب والشابات العمل في غير تخصصهم، فالمكاتب الهندسية تكاد تكون شبه مفقودة”.
وتختم حديثها بالقول: “لن أبقى متفرجة أو مكتوفة الأيدي إن كان مجال تخصصي غير مطلوب أو الفرص المشابهة له غير مرغوب بها أو متعطلة بسبب الحرب”.
لكسب الوقت
سبب آخر يختلف عن جميع ما تقدم، تشير إليه ندى ذات الـ31 عاما، وخريجة كلية الحقوق، والتي تعمل حالياً في مجال التسويق الإلكتروني. إذ تعتبر ندى أن من معوقات العمل بشهادة الاختصاص والتوجه للعمل بمجال آخر، ما يرتبط بآلية “تعديل الشهادات” ولا سيما في بلاد الاغتراب.
وتلفت إلى أن “التعديل” يحتاج لكثير من الوقت بسبب الإجراءات الإدارية القانونية والأمور “البرتوكولية” لكل بلد. لكن صاحب الشهادة لا يستطيع الانتظار طويلاً ليصله الرد بالموافقة أو عدمها وهو بدون عمل يسد فيه رمقه ورمق أسرته، بحسب وصفها.
وتضيف ندى أن ثمة أشخاص لديهم “شغف العمل بمجال بعيد كل البعد عن تخصصهم، وبالتالي يعملون ضمن مجال آخر”.
تحقيق الذات
تفيد الباحثة الاجتماعية “حسنا بركات” أن التصنيف يختلف من امرأة لأخرى، فالمحامية مثلاً التي تعمل معلمة ستشعر بالعمل كعبء، بينما في مجالات أخرى يتحول الموضوع إلى فرصة حقيقية لصناعة الذات وتطويرها وصقل المهارات.
وتوضح بركات أن الموضوع نسبي ومرتبط أحيانا بنظرة المجتمع لعمل المرأة إن كان لا يناسبها فسيكون عبئاً عليها، فالظروف والبيئة المحيطة بالمرأة لها تأثير شديد وهي من تحدد إن كان عبئاً عليها أم نافذة للتطوير.
وتشير بالدرجة الأولى إلى أن تحقيق الذات مرتبط بمدى تقبل المرأة لعملها، فإن كانت راضية به وتمارسه بحب فبالتأكيد لن يكون عبئاً عليها حتى لو كان بعيداً عن مجالها.
“اعمل ما تحب حتى تحب ما تعمل” انطلاقا من هذه المقولة الشهيرة -التي لا تنطبق على الجميع في اختيارهم العمل الأنسب بسبب الأوضاع التي نمر بها- يدرك السوري الجاد أن العمل في تخصصه سيزيد في إبداعه وشعوره بكيانه، والعمل في غير اختصاصه سيكسبه خبرة جديدة ولو بدرجة أقل من الاختصاص. وفي الحالتين لن يكون خاسراً، لأن الخسارة تكمن في عدم العمل بوجود الفرص.
تلفزيون سوريا