كان الهتاف مشتتًا وضائعًا بين آلاف المشاركين في الاعتصام، والذين كانوا حديثي العهد برفع أصواتهم والتعبير عما رصدته أسلحة القناصين على أسطح المباني المحيطة بالساحة بـ”الممنوع”، “احتاجوا شخصاً شجاعاً ليقف ويقود الاعتصام، هو لمس ذلك.. قال لي احملني على كتفيك، وأول هتاف قاله، بعد أن رمى قميصه، (اضرب اضرب يا قناص هي الرقبة وهي الراس)”.
حين اتجه عصام الراجح مع صديقه عبد الباسط الساروت، من حي البياضة نحو ساحة الساعة وسط مدينة حمص، في 18 من نيسان عام 2011، لم يكن يعلم أنه سيشهد على انطلاق من يعتبره “قدوته”.
بعد ثمانية أعوام على مشاركة عبد الباسط الأولى في الثورة السورية، تزاحم الآلاف ليودعوا “الرمز” في موكبه، وتناقلت جثمانه عشرات الأيادي، قبل أن يدفن في مدينة الدانا، بريف إدلب الشمالي، بعيدًا عن أرضه التي أحبها وحمل اسمها معه من تهجير لآخر، لكن غربته لم تعن ضياع أثره أو نسيان رسالته ولا نقص الإعجاب به.
في كل زاوية من زوايا إدلب تلمحه، إما برسم نقل ابتسامته الواسعة وشعره الطويل، أو بفعالية رياضية حملت اسمه، أو بصورته فوق علم الثورة المرفرف في المظاهرات على صدى أناشيده، أو بنقل الدورات والتشكيلات العسكرية لذكراه، ليكون الساروت الشخصية الأبرز في الثورة السورية التي تعددت بالاهتمامات والألقاب وكسبت احترام الجميع.
“بلبل الثورة وحارسها”
من عائلة بدوية سكنت حي البياضة في مدينة حمص، انحدر عبد الباسط (ولد عام 1992)، سارقًا الأضواء بلعبة كرة القدم، منذ سنوات المراهقة.
قبل أن يفوز بلقب ثاني أفضل حارس مرمى في قارة آسيا، مع منتخب سوريا للشباب، كان مستقبل لاعب نادي “الكرامة” الرياضي “واعداً”، حسب وصف نادر الأطرش، الإداري العام السابق لمنتخب سوريا للناشئين، والذي تعرف على مهارة عبد الباسط منذ عام 2007.
“لو كان أكمل مشواره الرياضي لكان له مستقبل كبير على مستوى حراسة المرمى إن كان محلياً أو عربياً”، حسبما قال الأطرش، رئيس اتحاد كرة القدم حالياً في إدلب، مشيراً إلى أحقية عبد الباسط في أن تقام الدوريات والبطولات الرياضية “ولاءً” لمن سُمي “حارس الثورة السورية”، انطلاقًا من خلفيته الرياضية.
من أبرز الفعاليات الرياضية، كان “مهرجان الساروت”، الذي أقيم في سرمدا بريف إدلب الشمالي، في الذكرى الأولى لوفاته، وكان المهرجات متكاملاً بالألعاب الفردية والقتالية، مثل الكيك بوكسينغ والجودو والجمباز والغطس.
وفي ملاعب كرة القدم كانت حصة الدوريات الخماسية التي سميت باسم عبد الباسط هي الأكبر، حسبما قال الأطرش، مضيفاً أن لاعبي نادي “حمص العدية”، الذي أسسه الحارس الشاب، ما زالوا متابعين باللعب، ووصلوا إلى مرحلة نصف النهائي في دوري كأس سوريا، الذي كان في آذار الماضي.
برأي الأطرش فإن عبد الباسط يعد قدوة للكثير من الرياضيين الشباب، الذين كانوا يرونه في الملاعب ويتأثرون بمواقفه، التي نقلها من الرياضة إلى المظاهرات، ناسخاً هتافات المشجعين إلى الشعارات الثورية، مثل “هي الله هي الله.. منصورين بعون الله”، “واساري سار الليل”، وغيرها.
امتازت مظاهرات حمص بهتافاتها وتناغم المشاركين فيها، بالحركة والدبكة والتصفيق، وهو ما أرجعه المنشد حمزة جوجة إلى شعبية لعبة كرة القدم وحماس أهل حمص بالتشجيع في الملاعب الرياضية.
ولذا كانت شخصية عبد الباسط وهتافاته وأناشيده المستوحاة من المباريات ذات أثر مباشر لدى المتظاهرين، حسب رأي حمزة، مشيراً إلى “الكاريزما” التي حملها اللاعب الشعبي.
وتوزعت الأناشيد التي غناها عبد الباسط لتصبح أناشيد “رسمية” بين السوريين، حسب وصف حمزة، وباتت مرتبطة بصوته وحده، الذي يستطيع بث الحماس في المشاركين حتى وإن اكتفى بالحركة دون الغناء.
أثر عابر للحدود
أحدث التسجيلات التي تداولها السوريون لأغاني عبد الباسط الساروت، لم تنطلق من المظاهرات السورية، بل من الاحتجاجات الفلسطينية، التي كانت على أشدها خلال شهر أيار الماضي، ضد نهج الاحتلال الإسرائيلي في الاستيلاء على أحياء القدس.
رافق صوت الساروت غناء المعتصمين أمام المسجد الأقصى، الذين رددوا مطالب الحرية، التي حملتها قضية فلسطين طوال سبعة عقود، ما أشار إلى شعبيته المستمرة خارج حدود سوريا.
استخدم “بلبل الثورة” جوارحه كلها في أناشيده وأغانيه، كما قال المنشد ماجد الخالدي، مشيراً إلى أن مزية الأناشيد الثورية هي أنا لا تعتمد على جمالية الصوت وإنما الصدق بالقضية والكلمة الخالية من التصنع، وكانت ميزة صوت عبد الباسط هي “المصداقية”.
وبرأي ماجد فإن الأنشودة هي رسائل تدل على التمسك بالقضية والتعريف بمطالبها، وسبق أن غنى منشدون وناشطون وحقوقون، من حول العالم، أناشيد الساروت وحملوا صوره ورددوا هتافاته.
الشاعرة والناشطة الإيطالية المؤيدة للثورة السورية فرانشيسكا سكالينجي ردت سبب شعبية أناشيد عبد الباسط إلى أنه “كان إنسانًا بسيطًا ذا قلب وعقل عظيمين، وشجاعة، وأغانية هي روح الثورة، وتحمل قيمها”، حسبما قالت، واصفة إياه بـ”الرمز العظيم للثورة”.
قالت فرانشيسكا أن قصة الساروت لمستها بعمق، مشيرة إلى ما نقله عنه الناس من مواقفه، “كان لدى الساروت قدرة رائعة على مخاطبة قلوب الناس”، لأن أغانيه تمثل “كل درجات آلام السوريين الأحرار”، مع فخرهم وقيمهم، حسب رأيها، وأضافت أنه حتى حينما يصاب الناس بالحزن فإن أغاني الساروت تمنحهم “الشجاعة لمواصلة السعي وراء هدف سوريا الحرة”.
وأشارت الشاعرة الإيطالية إلى أن قوة أغاني الساروت تعود أيضاً إلى أنها كانت مدعومة بالأفعال، “كان يغني ويقاتل أيضا ، وقرر البقاء في سوريا حتى النهاية”
قائد اللواء والمعارك
بعد عامين على معركة تل ملح، على جبهة ريف حماة الشمالي، والتي أصيب خلالها عبد الباسط بجراح، في 6 من حزيران عام 2019، وتوفي بعدها بيومين في مشفىً بمدينة الريحانية التركية، ما زال لواء “حمص العدية”، الذي كان يقوده تابعاً لـ”جيش العزة”، فاعلاً في التدريبات وتخريج الدورات العسكرية المتتالية التي حملت اسمه.
كان دور عبد الباسط العسكري مبكراً في الثورة السورية، إذ دفعته الملاحقة الأمنية لحمل السلاح، حسبما قال صديقه عصام الراجح، فأنشأ كتيبة “ثوار البياضة الأحرار”، التي انطلقت مع بداية عام 2012 بمعاركها ضد قوات النظام، قبل أن يعيد تسميتها بكتيبة “شهداء البياضة”.
بدء استخدام سياسة الحصار لأحياء حمص القديمة، منتصف عام 2012، دفع الساروت للبحث عن طرق لنقل العتاد والمواد الطبية، متمكنًا من الخروج عن طريق نفق، سرعان ما اكتشفه النظام ومنعه من العودة عبره.
حاول عبد الباسط مراراً العودة إلى الحصار إلى أن تمكن من ذلك بعد سلوك طريق خطر مع أخيه محمد، الذي توفي في أثناء المحاولة، التي كانت مطلع عام 2013، وكان ثاني إخوته المتوفين بعد وليد الذي قتل أواخر عام 2011.
من أبرز محطات قتاله للنظام كانت “معركة المطاحن”، التي حاولت فك الحصار وتأمين الطعام للسكان، وفقدت خلالها كتيبته 40 مقاتلاً، بينهم أخواه عبد الله وأحمد، مع أخيه بالرضاعة علي.
لم يتوقف عبد الباسط عن القتال عند تهجيره الأول من حيه إلى ريف حمص الشمالي عام 2017، وبعدها على جبهات أرياف حماة وإدلب وحلب، وحسبما قال عصام فإن أكثر ما كان يسبب لصديقه الألم هو الهدنة مع النظام الذي قتل واعتقل الثوار.
برأي العقيد مصطفى البكور، المتحدث باسم “جيش العزة”، فإن عبد الباسط تميز بفكر عسكري جيد وكانت خبرته التي اكتسبها من معارك حمص جيدة في القتال، مشيراً إلى أنه برز كأكثر القادة العسكريين التزاماً على جبهات القتال، على الرغم من صغر سنه، وتميز بطرح الأفكار الجديدة والاستعداد لتنفيذها.
وأضاف النقيب ناجي مصطفى، المتحدث باسم “الجبهة الوطنية للتحرير”، أن دور الساروت كان تحفيزياً للمقاتلين مع رفعه لمعنوياتهم بمشاركته بالمعارك العديدة، كونه “أيقونة” للمظاهرات أولاً، وكان يتمتع بالشجاعة والفطنة وذا همة عالية، حسب وصفه.
إلى متى تستمر ذكرى الساروت؟
لم يسلم عبد الباسط من التهم خلال سنوات الثورة، عدا عن وصفه بـ”الإرهابي” من قبل وسائل إعلام النظام ومؤسساته، كانت الأنباء عن انضمامه لتنظيم الدولة من أهم ما دفع الناشطين لانتقاده، على الرغم من نفيه لذلك.
وعلى الرغم من إصراره حتى النهاية على أن “الثورة مستمرة حتى النصر”، لم ينتظر السوريون من قتاله على الجبهات أو هتافه في المظاهرات، بعد الأشهر الأولى من عام 2011، تحقيق مطالبهم بإسقاط النظام، بعد أن توضح لهم أن الحل عالق وسط تجاذبات الأطراق الدولية، التي أكدت مرارًا أنها لن تسمح بحل سوى الحل السياسي.
مع ذلك يبقى الحضور الطاغي لعبد الباسط الساروت، في كل ما يرتبط باسم الثورة في إدلب، وحول العالم، لافتاً بعد عامين على رحيله، وهو ما أرجعه الناشطون إلى شخصيته لا أدواره الثورية فقط.
عصام الراجح قال إن تواضع عبد الباسط وابتعاده عن المصالح الدنيوية هو ما جعله قريباً من قلوب الناس، خاصة أنه حين توفي لم يكن يملك عقارات ولا حسابات في البنوك ولا غير ذلك.
من جانبه يرى المنشد حمزة جوجة أن إحياء ذكرى عبد الباسط واجب مهم لصالح الثورة، كتجديد للعهد من جهة، ودعوة لإيقاظ ضمائر المؤيدين للنظام السوري و”الرماديين” الذين بقوا على الحياد، من خلال عرض المواقف الحقيقية لمن اتهموا بـ”الإرهاب”.
مساعدة الجيل الجديد على فهم دوافع الثورة وسبيلها الصحيح، هو السبب لإحياء ذكرى من كانوا “مدرسة بالشرف والأخلاق والتضحية والثورة”، حسب رأي ماجد الخالدي، الذي أشار إلى ضرورة توجيه الجيل الجديد للحفاظ على كرامتهم وعدم قبول الظلم.
أما في رأي الشاعرة الإيطالية فرانشيسكا سكالينجي فإن تخليد من صنعوا الثورة هو “الصواب”، لأن محو تاريخ الثورة هو ما يسعى إليه النظام وحلفاؤه، “يريدون من السوريين والعالم أن يصدقوا أن الثورة لم تكن موجودة، أو أنها لم تكن تستحق العناء، لا يمكننا السماح بذلك”، كما قالت، مضيفة أن إحياء ذكرى الرموز، “لا يعني أنهم كانوا مثاليين لكنهم كانوا هناك وقاتلوا بكل ما لديهم”.
تلفزيون سوريا