“علمت أنك كنتَ في السجن أيام حافظ الأسد. هل اجتمعت بشخص اسمه (…….)؟ أو هل تصادف أنك سمعت عنه أي شيء؟ إنه أبي، وقد اعتقل عام 1980 وعرفنا من بعض السجناء أنهم رأوه تلك الفترة في سجن تدمر، لكن بعدها وحتى اليوم لا نعرف عن مصيره شيئاً”.
بعد ربع قرن من مغادرتي السجن، ما زالت تأتيني رسائل تتضمن أسئلة من أبناء، عما إذا كنت أعرف شيئاً أو أني قابلت آباءهم المختفين منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي. وحين أجيب بالنفي، سيبدأ نوع آخر من الأسئلة بصفتي خبرتُ السجن، عما إذا كنت أعتقد بإمكانية أن يكون ما زال على قيد الحياة في أحد السجون؟ وهنا، وكي لا أقتل بقايا أمل، هو حتماً ما زال لدى السائل، أجيب بطريقة باتت تقليدية لديّ، لكثرة ما أجبت بها: “في سجون الأسد كل الاحتمالات واردة”. نعم أجيب على هذا النحو رغم أني أعرف يقيناً في داخلي أنني أكذب، وأن جثة الأب توجد مع آلاف الجثث الأخرى في واحدة من المقابر الجماعية، في مكانٍ ما من بادية تدمر. تنويعات من مثل هذه الأسئلة تتكرر كل عدة شهور وأحياناً من أشخاص من جنسيات مختلفة، فغير السوريين هناك لبنانيون وفلسطينيون ابتلعتهم سجون الأسد. وحتماً هناك عشرات الآلاف غير أولئك الذين اهتدوا إليّ ليسألوني، وجّهوا مثل تلك الأسئلة إلى ناجين آخرين.
السؤال الذي تستدعيه هذه الحكاية المأساويّة بداهةً هنا، لماذا افترض ناشرو الصورة أن هذا الشخص كان معتقلاً، رغم أنه لم يكن كذلك؟
خلال الأيام الماضية انتشرت على وسائل التواصل وفي بعض المواقع الإلكترونية، صورة لشاب قيل إنه خارج حديثاً من السجن، وهو فاقد الذاكرة، بحسب الرواية التي انتشرت. ثلاث عائلات من قرى مختلفة في منطقة حوران، سوف تعتقد أن هذا الشاب هو ابنها، وعائلتان منها على الأقل، نزل بعض أفرادها إلى دمشق، ليجوبوا المنطقة التي قيل إن الشاب كان فيها بحثاً عنه، بعد اشتباههم أن الصورة تعود لمعتقل يخصهم. كان أول ما انتشر، هو اسم مدرس اللغة الفرنسية أحمد قاسم اللطيف من قرية “تسيل”، المعتقل في صيدنايا منذ ثماني سنوات على أنه قطعاً صاحب الصورة، بحسب عائلته. بعدها تم تداول اسمين آخرين، أحدهما من قرية “قرفا” معتقل عام 2012، والآخر من قرية “عتمان”، وكان اعتقل في أواخر العام 2012. طبعاً سينطفئ أمل العائلات الثلاث، في نهاية درامية مخيّبة، عندما تبيّن أن الصورة لشخص من سكان بلدة “يلدا” في ريف دمشق مصاب بمرض نفسي، وقد فُقد من بيته قبل عشرة أيام، والشاب لم يكن في السجن أصلاً، كما أُشيع.
السؤال الذي تستدعيه هذه الحكاية المأساويّة بداهةً هنا، لماذا افترض ناشرو الصورة أن هذا الشخص كان معتقلاً، رغم أنه لم يكن كذلك؟ البحث في دوافع هذا الظن سيكون صعباً في بلد آخر، لكن في سوريا فالجواب بديهي. حدث ما حدث، بسبب ما ترسّخ في ذهن أي سوري عن نتائج التعذيب في المعتقلات. هذا التصور هو ما جعل ناشرو الصورة يعتقدون أن الشاب المعتلّ نفسياً لا بدَّ كان معتقلاً، وقد فقد الذاكرة نتيجة التعذيب، وهو تصور معقول سورياً، ومبني على مئات الحالات المشابهة لسجناء خرجوا مع علل نفسية. في حالات اختلاط الهوية، هناك ما يعرف بتشابه الأسماء، أما سورياً فهناك ما يمكن أن نطلق عليه، تشابه الموت أو تشابه الجنون في سجون الأسد، وكذا تشابه ملامح السجناء، ففي السجن السوري ونتيجة التعذيب والظروف غير البشريّة، تضيع الهوية الأصل للوجه، ليغدوا السجناء متشابهين، ويمكن وصف أي من تلك الوجوه، بأنه “وجه سجين سوريّ”، وهكذا كان وجه صاحب الصورة التي انتشرت. حدث ما يشبه هذا الاختلاط، لكن بصورة أقسى، قبل سنوات، مع ملامح القتلى تحت التعذيب في صور قيصر، عندما كان مئات آلاف السوريين يتفحصونها وهم يفتشون فيها عن أبنائهم.
ليس من الصعب الجزم بأن آلاف العائلات السورية قد تمعنت بصورة الشاب أيضاً، قبل أن تستبعد أن تكون لابنها المختفي في أحد المعتقلات، فتتابع البحث بوسائل أخرى. بحث عائلات عن أمل في تلك الصورة التي انتشرت، هو تراجيديا مكتملة العناصر، وكانت لتضج بها كبريات الصحف ووسائل الإعلام، لو حدثت في أي بلد آخر، لكنها حدث عادي ويتكرر يومياً في سوريا، ولذا لن يتوقف عندها الإعلام طويلاً، فسِمة عهد الأسد هي استسهال الاعتداء على حيوات الناس، وإنتاج تراجيديات مشابهة على مدار العقود الأخيرة.
في يومٍ ما، بعد سقوط نظام الأسد، سيكون أمام السوريين، ما يمكن أن ندعوه ملحمة البحث عن المفقودين
بوجوه تشي بانعدام الأمل بأي مناصرة دولية، وبالتأكيد دون وهم أن يستجيب النظام، تطالعنا صور أمهات سوريّات يحملن، في عديد من مدن العالم، صور أبنائهنّ أو آبائهنّ أو أزواجهنّ المفقودين. لكن أي واحدة منهنّ لن تجرؤ على رفع مثل هذه الصور في سوريا، فهنا رفع صورة كهذه مغامرة تنطوي على خطورة مهلكة في الغالب، وقد تودي بمرتكبها لأن يكون اسماً جديداً في قائمة لا تنتهي للمفقودين. فعبر نصف قرن شكّل ملف اختفاء المعتقلين في السجون السورية، وعدم معرفة مصيرهم، واحدة من أكبر المآسي في هذا البلد المحكوم بلعنة هذه الجريمة المعلنة عالمياً.
في يومٍ ما، بعد سقوط نظام الأسد، سيكون أمام السوريين، ما يمكن أن ندعوه ملحمة البحث عن المفقودين، وهي مهمة لا تكاد تنتهي للوصول إلى خفايا هذا الملف، وعلى الأغلب إن تفكيك هذه الكارثة سيحتاج لجهود وخبرات دولية ستستمر لسنوات طويلة. تحقيقات مع عشرات الآلاف ممن عاصروا تلك المجازر، فحص الوثائق، نبش مئات المقابر الجماعية، وإجراء فحوصات “DNA” لمئات الآلاف من الجثث لمن اختفوا في عهد الجريمة الموصوفة، عهد الأسدين الأب والابن، بهدف معرفة هوية صاحب كل جثة، في مقابر لا أثر ظاهر لها اليوم، لكن كل سوريّ يعلم أنها تنتشر من بادية تدمر وضواحي حماة في أيام حافظ الأسد، وصولاً إلى كامل الجغرافيا السورية في عهد بشار الأسد. يومها سيغدو من يؤرخ لسجون الأسد في سوريا، كمن يؤرخ لموجة طاعون مريع اجتاح وابتلع حياة مئات الآلاف على مدى عشرات السنوات. وحتى ذلك اليوم ستبقى مئات آلاف العائلات السورية ممن فقدوا أبناءهم على قيد شبهة أمل لن تنطفئ. فالمفقود حيّ حتى يثبت العكس.
تلفزيون سوريا