كيف دمرت الشعبوية الأسدية سوريا؟

محمد ياسين نجار

يمثل نموذج ترامب الآتي من خارج المؤسسة السياسية العريقة إلى موقع الرئاسة مباشرة نموذجاً مثالياً للشعبوية من حيث الخطاب والأداء واستخدام مواقع التواصل الاجتماعي، لا بل كانت هذه المواقع وخاصة تويتر نموذجًا جليًا في عملية إيصال الرسائل إلى الجماهير والتأثير عليها بعيدًا عن وسائل الإعلام الكلاسيكي التي كان ترامب لا يثق بها بل يتهمها بمعاداته.

كانت فترة حكم ترامب مزيجًا من الفرح والألم بالنسبة للسوريين، ساهم في إسعادهم عندما اغتال قائد الحرس الثوري الإيراني والمهندس الفعلي للتدخل الإيراني وقيادة العمليات في سوريا قاسم سليماني وكذلك عندما اغتيل المسؤول الأول للمشروع النووي والصواريخ الباليستية محسن فخري زاده في قعر دارهم في طهران، مما كسر شوكة ملالي إيران وعنفوانهم، إلا أن فترته أيضًا رافقت خسارة الثورة لمساحات واسعة كانت تحت سيطرتهم في إدلب وحلب ولم يتدخل لإيقاف هذه الخسارات كما حصل عندما دعم قسد شرقي سوريا.

رغم ذلك تمنى بعض السوريين إعادة انتخابه خشية تكرار نموذج أوباما الذي قايض على جرائم الأسد بالاتفاق[y1]  النووي الإيراني.

استخدم حافظ الأسد منذ استيلائه على الحكم خطابًا شعبويًا هدف إلى تقسيم المجتمع عبر واجهته المخادعة “حزب البعث العربي الاشتراكي”

لقد كشفت عملية اقتحام الكابيتول من قبل الشعبويين والعبث بمحتوياته عن حالة غير مسبوقة في تاريخ الولايات المتحدة اضطرت غالبية السياسيين من الجمهوريين والديموقراطيين إلى التبرؤ منها لا بل اتهامها بالإرهاب وهذه سابقة غريبة حيث كانت محصورة سابقا بالمتطرفين المنتمين للديانة الإسلامية.

في الحالة السورية استخدم حافظ الأسد منذ استيلائه على الحكم خطابًا شعبويًا هدف إلى تقسيم المجتمع عبر واجهته المخادعة “حزب البعث العربي الاشتراكي” التي خدع من خلالها السوريين وسوَّق فكرة الحزب القائد الذي يحكم وليس العسكر وكذلك عبر شعاراته القومية العروبية الشوفينية وخطاب المقاومة لتحرير فلسطين والجولان وخطاب الصراع الطبقي الذي يَعِد من خلاله طبقة العمال والفلاحين بسيطرتهم على المصانع والأراضي فجميعنا يذكر الشعارات التي كانت تردد قسراً في المدارس وكافة المحافل الوطنية والاجتماعية:

 “أمة عربية واحدة.. ذات رسالة خالدة، أهدافنا وحدة حرية اشتراكية”

“لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”

“المعمل لمن يعمل به والأرض لمن يزرعها”

“عهدنا أن نتصدى للرجعية والإمبريالية ونسحق أداتهم عصابة الإخوان المسلمين العميلة”

رغم سيطرة الأسد الأب على الحكم لثلاثة عقود إلا أنَّه لم يحقق أيَّاً من تلك الشعارات أو حتى جزء منها؛ فقد كان أكبر المساهمين في تفتيت الوطن العربي وتقسيمه، حيث انحاز للنظام الإيراني الفارسي الطائفي ضد العراق، وارتكب مجازر ضد الفلسطينيين في تل الزعتر وطرابلس وبيروت، أمّا قضية العمال والفلاحين فقد ساهم في انخفاض دخل تلك الطبقات وحول الطبقة المتوسطة في سوريا إلى طبقة فقيرة وساهم في بناء طبقة فاسدة من أقاربه؛ امتلكت المليارات من جيوب العمال والفلاحين ومن ثم قاموا بتهريبها إلى مختلف دول العالم بما فيها تلك التي كان يصفها بالدول الإمبريالية.

أما إذا انتقلنا للحديث عن الثورة السورية فنجد أنها صاغت منذ انطلاقتها بشكل عفوي ولافت، خطابًا وطنيًا جامعًا، عماده وحدة السوريين كالشعار الذي عم التظاهرات ” واحد واحد واحد..  الشعب السوري واحد”، ثم انبرى رجالات الثورة وشبابها لنقاشات واسعة في كيفية بناء نموذج ديموقراطي حضاري.

كان النظام واعيًا لخطورة توحد السوريين بكافة مشاربهم في مواجهته، لذا سعى منذ اللحظات الأولى لتفكيك الثورة من خلال أدوات يتقنها بامتياز؛ عمادها الأيديولوجيا والنعرات الطائفية والقومية والمناطقية والتي هي نفسها كانت أدواته الأساسية في السيطرة على حكم سوريا منذ نصف قرن، فقام باستخدام المؤسسة العسكرية لحمايته بدل أن تكون لحماية الوطن والشعب، وحصن نفسه بالقرابات العائلية والمناطقية من خلال إطلاق يدهم على مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية والأمنية.

كل ما سبق كان هدفه إطلاق الشعبوية الثورية من عقالها وهذا ما لوحظ ما بعد عام 2013 بشكل واضح، والتي اضطرت في البداية أن تقوم قيادات المجلس الوطني وبعده الائتلاف إلى التعامل معها، بل لجأت أحيانًا إلى مجاراتها، لاحقًا فقدت السيطرة عليها خاصة بعد أن تم استهدافهم بالشائعات والاتهامات من قبل أجهزة استخباراتية صديقة للنظام، أو حتى معادية له، مما اضطر البعض للانسحاب من المشهد السياسي أو الصمت.

تطور استخدام الخطاب الشعبوي من قبل الجهات المدنية والعسكرية المحسوبة على الثورة باتجاهات متعددة؛ دينية أو قومية أو طائفية، لم يع القادة في تلك المرحلة أنّ هذا الخطاب رغم تأثيره الأولي إلا إنّ مفعوله قصير خاصة مع عدم وضع خطط استراتيجية للتعامل مع المستجدات واستيعاب طبيعة العلاقات الدولية المتغيرة وكيفية بناء تقاطعات المصالح الوطنية مع الأصدقاء دون الوقوع تحت سيطرة الاستقطاب الإقليمي وسياسة المحاور التي تطورت بشكل خطير خاصة مع مجيء ترامب.

بإجراء عملية المقارنة بين شعبوية ترامب وشعبوية عائلة الأسد نرى أنّ الدولة الأميركية حاضرة للجم أية شعبوية تهدد الدولة، بل قادرة على محاسبتها، وما حصل من قيام مجلس النواب بالتصويت لأول مرة على إجراءات عزل الرئيس في مناسبتين منفصلتين يعدّ دليلًا واضحًا على حضور فاعل للدولة الأميركية في حماية مؤسسات الدولة، وبالمقابل ما حصل في سوريا عبر نصف قرن من حكم عائلة الأسد هو غياب كامل للدولة السورية لصالح هذه العصابة الحاكمة.

إنّ الثورة السورية لم تنطلق لتشكيل دولة ذات هوية معينة غير الهوية التي أبدعها السوريون عبر القرون؛ عمادها التعايش والاحترام والتفاعل الدولي سياسيًا واقتصاديًا

إن بناء الأوطان على أسس راسخة يتطلب قادة مقتنعين بالخطاب الوطني الجامع وليس مجرد خطاب براغماتي يستخدم حسب الزمان والمكان وإن تأخرت نتائجه وهاجمه البعض، وحتى لا يتحول الخطاب إلى حالة شعاراتية أيضا يجب أن ترافقه حلول إبداعية، وتتجسد تلك الحالة الوطنية بشكل عملياتي من خلال الاستفادة من الكفاءات دون تنميط أو إقصاء أو اتهام لهذا التيار أو ذاك بالعلمنة أو الأسلمة أو الانتماء لعرق دون آخر.

إنّ الثورة السورية لم تنطلق لتشكيل دولة ذات هوية معينة غير الهوية التي أبدعها السوريون عبر القرون؛ عمادها التعايش والاحترام والتفاعل الدولي سياسيًا واقتصاديًا، لقد كان هدفها الأسمى بناء وطن ديموقراطي حر يفصل بين السلطات ويسوده القانون ويرعى الإبداع ويكون الحاكم فيه تحت سلطة الشعب.

مهما طال أمد ثورتنا المباركة ومهما دفعت من أثمان باهظة ففي النهاية لا يصح إلا الصحيح، ولنا في دول عديدة عبر ودروس، فلنتعظ منها قبل فوات الأوان وحتى لا نسمح بزيادة الكلف الباهظة التي يدفعها شعبنا، من خلال تنظيم بيتنا الداخلي المؤمن بالثورة وأهدافها، نستبعد خلاله الشعبويين الانتهازيين والذين أثبتت الأيام عدم امتلاكهم المقدرة على حماية مكتسبات الثورة، نقدم للصفوف الأولى الكفاءات الوطنية التي أثبتت الأيام عدم انجرارها للخطاب الشعبوي المتطرف بل حافظت على خطها الوطني رغم الهجمات التي كانت تطالها من تلك الفئات والمجموعات التي لا تجيد إلا الشعارات دون مقدرة على التنفيذ أو التفكير به.

وطننا وثورتنا تستحق منا البذل والتضحية والتفاعل والاحترافية بعيدًا عن الشعبوية والتلون والانتهازية والبراغماتية التي كشفت عن طبقة غير جديرة بالقيادة وهذا مفيد للوطن والشعب حتى لا نعيد الكرة مراتٍ ومرات دون الخروج من رحلة التيه التي طالت كثيرا.

تلفزيون سوريا