أزمة الهوية

لقد زعزعت الأزمات الاقتصادية والسياسية المتلاحقة الإنسان السوري والعربي بشكل عام، وهزت لديه كثير من المعتقدات والقيم التي كانت في منأىً عن التحليل والتداول وكان مجرد الاقتراب منها يعد من المحرمات.

كما وكشفت اللثام عن أزمة حقيقية تعصف بالشعوب العربية، وبات من الواضح أننا نعاني من “أزمة الهوية” وليس المقصد هنا الهوية الوطنية أو الانتماء من عدمه، وإنما مسألة الهوية الشخصية فيما يخص العمل السياسي والاجتماعي، والمنهج الذي يفضله، إذ راح كثيرون منا يتخبطون بين فكر سياسي وآخر وبين مدرسة اقتصادية ونقيضها بالتزامن مع انتشار مفاهيم عائمة وغير واضحة بخصوص مفاهيم الحرية والاستقلال أو حقوق الإنسان وغيرها.

فقد طفا بعضنا على السطح في تحليل أسباب الأزمة بادئين بتفنيد الأسباب من أعلى رأس الهرم، إذ عزوا بذلك سبب الأزمة السياسية والمجتمعية إلى الهيكل الخارجي للدولة أو هويتها المفترضة.

فيما كان نصيب الغالبية العظمى السقوط في قاع الحياة اليومية التي استهلكت أعمارهم في محاولة التسلق من أجل تأمين حياة كريمة، من دون أن يكون لهم رفاهية الدخول في معترك التحليل والتنظير السياسي، ليتولى الوصاية عليهم رجال الدين أو زعماء الطوائف والعشائر والملل، أو يحرضونهم بغيبيات جعلتهم ينقلون الدين إلى ساحة السياسة كي يكون نداً مقابلاً للطرف الآخر الذي يعتبره مناوئاً له وسبباً وحيداً في تفشي الأزمات على كثرتها.

لقد دخلت الأطراف التي تطمح في إدارة الحياة السياسية، في خلاف العقيدة والمنهج وبدأ كل منهما يكيل الاتهامات للآخر معتقداً أن في منهجه وهويته خلاص البلاد وشفاءها المطلق.

من نافل القول هنا أن الحياة السياسية في سوريا أو غيرها من البلاد في المنطقة، قد قضت سنواتها في تقاذف الاتهامات وعدم البحث في جذر المشكلة أو محاولة حلها والاكتفاء بالتشخيص وعدم البحث في العلاج.

وعلى الرغم من أن النقاش بخصوص الأسباب والنتيجة وتبادل الاتهامات قد أصبح ضرباً من ضروب الرفاهية في هذه المرحلة، فإن كل فريق مازال يصر على الأسلوب الذي درج عليه خلال سنوات من الإدلاء بتصريحات وإصدار وبيانات وتحشيد جماهيره ومريدينه، مستهدفاً أن يدرأ عن نفسه شعور الذنب، ويسقط المسؤولية الناتجة عن تقصيره تجاه المهمة الأساسية وهي البحث عن الثغرات ومحاولة حل المشكلة من جذورها.

إن التقدم الوحيد الذي استطاع أن يقدمه “علمانيو ومثقفو الوطن العربي” على سبيل المثال، فيما يخص المجتمع المدني أو فصل الدين عن الدولة: هو تعالي أصواتهم بمعاداة الإسلام فقط لا غير ليكسبوا بذلك عداء الطرف الآخر، إضافة إلى إصدار بيانات منددة ومستنكرة لأي عمل إرهابي _مفترض_ في الدول التي تتاجر باستهدافها من الجماعات الإرهابية، وفي هذا إخلاء مسؤولية _مفترضة_ ودرء لاتهام مباشر من الدول الأوروبية لكل الدول التي تضم الأغلبية المسلمة.

المشكلة لا تكمن في شكل الدولة أو هويتها، فنحن ما زلنا نواجه مشكلة أكبر وأكثر عمقاً من الصراع الأزلي حول نظام الحكم سواء كان دينياً أو علمانياً

متغاضين بذلك عن الدور الأساسي المنوط بالمثقف: وهو النهوض بالمجتمع الذي ينتمي إليه أو العمل على الخروج من القوقعة الدائرية المحيطة بنا، التي تجعل من احتكار السلطة وإدارة المجتمع من المؤسسات الدينية أو المؤسسات العسكرية وتبادل الأدوار بينهما حلاً وحيداً لإرساء قواعد الديمقراطية السياسية الوهمية، وفي هذا أهم الأسباب في تراجع المجتمعات وتخلفها والسيطرة على مقدراتها وهو ما يستدعي الثورة ضده بالضرورة.

أما ما قدمه زعماء الطوائف والملل ورجال الدين فلم يكن سوى تحشيد غير مبني على الوعي والعقل في مواجهة خصم مفترض، تتكون خطيئته الأولى في وجهة نظرهم من الاختلاف في العقيدة والمنافسة على السيطرة السياسية، من دون قراءة واضحة أو دراسة علمية لاحتياجات المجتمع السياسية وطرق تطبيقها، وهذا يحيلنا إلى استنتاج أن المشكلة لا تكمن في شكل الدولة أو هويتها، فنحن ما زلنا نواجه مشكلة أكبر وأكثر عمقاً من الصراع الأزلي حول نظام الحكم سواء كان دينياً أو علمانياً.

فنحن في الحقيقة نفتقر إلى وجود الدولة من حيث المبدأ، وما زال خلافنا حول تحديد هويتها أو إكسابها ثوبا علمانياً أو دينياً، يحتاج منا اجتياز مراحل أكثر صعوبة من الحرب العسكرية التي نخوضها الآن من أجل الحصول على الحرية أو تحصيل مكتسبات سياسية وإنسانية.

فنحن نحيا في تجمعات بدائية لا تمت لشكل الدول بصلة، ومحكومون بعصابات تسيطر علينا بالقوة، وتسرق قوتنا مقابل الإبقاء علينا أحياء، ومن أجل تحديد هويتنا الشخصية أولا يجب العبور في نفق التجربة السياسية المرير، لنختار هويتنا واعين لا مضطرين بسبب غياب البدائل، ومن أجل هذا فقد حكم علينا أن نتخلص من العيش تحت عباءاتهم كخطوة أساسية أولى في هذا الطريق.

وللتاريخ فإننا علينا أن نقر أننا كنا جميعاً شركاء في تفاقم المشكلة بل ونتقاسم المسؤولية مع من اخترناهم_في حال كنا نملك حق الاختيار _ أو تسلطوا علينا ليصبحوا حاكمين للبلاد.

لقد جعلت منا خيبات الأمل المتكررة يائسين إلى درجة أننا لم نعد نطلب من الدولة بشخصياتها الطبيعية والاعتبارية، إلا أن نكون في مأمن من شرها، وذلك لا يقتصر على الحياة السياسية فحسب وإنما يتعداها للحياة الاقتصادية والاجتماعية على حد سواء.

وعلى الرغم من أننا (بنو الإنسان) قد لجأنا إلى التجمعات بهدف تحقيق أهداف اقتصادية وأمنية، غير أن تلك الأحلام مع الزمن مالبثت أن تبددت وتضاءلت وتحولنا إلى مجرد أدوات استخدمتها الأنظمة الحاكمة لتثبت أركانها.

إن إدارة المجتمعات في التجمعات التي نحيا فيها من غير الممكن أن نصطلح عليها بـ “الحياة السياسية”، ذلك أننا ما زلنا نقع في فخ التنظير أكثر من العمل على التأسيس والبناء، فتصبح الحلول السياسية المتاحة تجميلية وغير بناءة أو غير مناسبة للبنية المجتمعية والفردية لنا.

تلفزيون سوريا