لا قوات سورية في سورية

مها غزال
27 أكتوبر 2019
على خلاف ما توقّع بعضهم، لم تكن الحرب في تل أبيض ورأس العين في شمال سورية ضمن العملية العسكرية التركية “نبع السلام” طويلة، غير أنها حوّلت مجرى الصراع في منطقة الجزيرة العربية، وقلبت الموازين، وغيرت خريطة السيطرة العسكرية، بعد الانهيار السريع وغير المتوقع لقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وتوجهها نحو تغيير تحالفاتها الدولية، وتسليم معظم أماكن سيطرتها لروسيا ونظام الأسد.
وبغض النظر عن الموقف من الحرب في الشمال السوري بين القوات التركية وتنظيمات في المعارضة السورية المسلحة من جهة و”قسد” من جهة أخرى، فربما تكون هذه الحرب الأكثر أهمية لجهة أنها تقدّم الصورة الأوضح لما صارت إليه التشكيلات المسلحة، سواء قوات سوريا الديمقراطية أو تشكيلات المعارضة المسلحة الأخرى، بما فيها التابعة لنظام الأسد. جميعها صارت، في بناها ومساراتها وقراراتها، مرتبطة بقوى إقليمية ودولية، تقرّر حضورها أو غيابها، وتقرّر مساراتها، وتشكل قوة الحسم في القرارات المتخذة، وإذا قرّرت تلك القوى الإقليمية أو الدولية الراعية التخلي عن هذا التشكيل أو ذاك، فيمكن أن ينهار على نحو ما أصاب قوات “قسد” التي لجأت، في مواجهة خسارتها المعارك الأولى من الحرب، إلى تسليم مناطق سيطرتها وأسلحتها، بل ورؤوس جنودها وضباطها لجيش النظام الذي طالما شهّرت به، واصطدمت معه سياسياً وعسكرياً، أو ادّعت ذلك على الأقل، وهذا ما يطرح أسئلةً جوهريةً بشأن ماهية تلك التشكيلات وهويتها ومرجعياتها وانتمائها وقدرتها على الدفاع عن نفسها، قبل أن تدافع عن مشروعها أو الأرض التي تقف عليها.
ولأن عملية “نبع السلام” أدت إلى طرح الأسئلة السابقة، فإن الأسئلة ذاتها كان ينبغي أن تُطرح في معركة غصن الزيتون 2018 التي خاضتها تركيا ضد قوات سوريا الديمقراطية، حيث
“منذ 2013، لم تتدخل قوة مسلحة معارضة لدعم جبهة أو قوة أخرى في مواجهة النظام وحلفائه” عجزت الأخيرة عن التصدّي للقوات التركية ومناصريها من المعارضة المسلحة، وانسحبت من مناطق كانت تحت سيطرتها بغطاءٍ من معارك شكلية، لم يتم فيها استخدام ما تملكه من أسلحة حصلت عليها من الولايات المتحدة، ولا أظهرت القوة التي حاربت فيها مليشيات تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) قبل المعركة وبعدها، لكن أحداً لم يسأل تلك الأسئلة، ربما بسبب محدودية المعركة، ونتائجها المحدودة.
زادت قوات “قسد” في “نبع السلام” خطواتٍ أخرى لما حصل من قبل، أن مقاتليها، عند انسحابهم من تل أبيض ورأس العين، دمّروا كثيرا من تحصيناتهم قبل البدء بالعملية أخيرا، تحديدا بعد الاتفاق التركي الأميركي. ولا يمكن القول في هذا إن “الإدارة الذاتية” وثقت بأن هذا الاتفاق سيضمن بقاء سيطرتها مدنياً على تل أبيض ورأس العين، لأن تاريخ الخذلان الذي تعرّضت له القوى الكردية في هذه المنطقة كان يجب أن يفرض عليهم حذرا كثيرا، قبل منح الثقة لتلك الاتفاقيات.
وفي الواقع، لم تكن “قسد” القوة الوحيدة التي مضت في هذا السلوك في صراعها المسلح، فالذاكرة السورية حافلة بالحالات المماثلة، ولعل بين الحالات الأهم ما صاحب الحرب على حلب في عام 2016، إذ هاجم النظام وحلفاؤه المدينة وحاصروها، وفشلت كل النداءات للقوى المسلحة في المناطق السورية الأخرى لفتح الجبهات على قوات النظام وحلفائه لإفشال الحرب على حلب، أو تخفيف حدّتها على أمل إيجاد ظروف أفضل، وهو ما لم يحصل، بل ثبت أن بعضهم مضى إلى ما هو أسوأ من التخاذل، إذا تأكّد أن فصائل كانت تتوسّط قوى إقليمية ودولية لتسليم ما تسيطر عليه من جبهات قتال مقابل خروجها من حلب، وحصل مثله في معركة حمص القديمة، حيث ارتفعت صرخات استجداء الفصائل المسلحة عام 2014 من أجل فتح المعارك على مختلف الجبهات، للتخفيف من الضغط الذي يتعرّض له المقاتلون في حمص القديمة وضمان عدم سقوطها. ومثل ذلك، أو قريب منه، تكرّر إبّان معارك انتهت بسقوط داريا ومضايا والزبداني ووادي بردى ودرعا والغوطة وغيرها، من دون أن تتلقى الفصائل الموجودة في هذه المدن أي دعم من قوى المعارضة المسلحة في المدن والمحافظات الأخرى.
وواقع الأمر أنه، ومنذ عام 2013، لم تتدخل أيٌّ من القوى المسلحة التابعة للمعارضة لدعم
“ربما تكون هذه الحرب الأكثر أهمية لجهة أنها تقدّم الصورة الأوضح لما صارت إليه التشكيلات المسلحة” جبهة أو قوة أخرى في مواجهة هجمات قوات النظام وحلفائه، وغالباً ما دخلت هذه القوى معارك فيما بينها، كما حدث مراراً في الشمال، كما معارك “أحرار الشام” و”فيلق الشام” مع شقيقاتهما من الفصائل الإسلامية، والأمر نفسه حدث وتكرّر في الغوطة الشرقية بين “جيش الإسلام” و”فيلق الرحمن”، في وقت كانت فيه الغوطة تحت حصار ممتد سنوات. بل وصلت الخلافات والصراعات البينية إلى التشكيلات المسلحة التابعة للنظام، حيث لم تسلم تشكيلات جيش الأسد الذي صدّعته انقساماتٌ، أبرزها مجموعة ذات روابط مع إيران، وأخرى ترتبط بروسيا عبر قاعدة حميميم.
السبب الرئيس لهذه الظاهرة يكمن في تبعية تلك التشكيلات لدول موجودة على خريطة الصراع السوري، سواء بصورة مباشرة كما هو حال روسيا وإيران وتركيا، أو بصورة غير مباشرة، والأمثلة في الأخيرة كثيرة، تشمل الولايات المتحدة ودولا عربية وأوروبية. وثمّة أسباب أخرى، منها غياب المرجعيات السياسية أو انهيارها، وضعف المستوى السياسي والأخلاقي لقادة تلك التشكيلات، وتراكضهم من أجل تحقيق مكاسب مادية وسريعة على حساب القضايا التي يعلنون أنهم يخدمونها.
لقد أثبتت تلك التشكيلات سقوطها المريع، وصار بين أولى الخطوات المطلوبة تصفية تلك الجماعات على كلا الضفتين، لكن ذلك يحمل، في طياته، عشرات الأسئلة المُرّة، وكثير منها لا جواب عليه، اليوم على الأقل.

 

العربي الجديد