أخر الأخبار

الاعتراف تحت التعذيب.. كوميديا سوداء

في نهاية واحدة من جلسات التعذيب، لم يكن العقيد علي إسماعيل سعيداً بما حصل عليه من معلومات. بحركة وأداء مسرحيّ قال للجلادين من حوله: حوّلوه صباحاً إلى سجن تدمر، وأرسلوا برقية بقرار إعدامه بسبب سرقته دبابة من الكتيبة العاشرة في الرستن، ومحاولته الهجوم على مصفاة حمص. ثم بصوت حاسم أضاف: خذوه. طبعاً لم يكن في تحقيقي ولا في أسئلتهم لي، كمعتقل رأي، أي شيء من هذا. بداهةً، كان عليّ فوراً أن أقدر أنه يهذر لتخويفي بطريقة ساذجة، لكن هذا لم يحدث، فقد قضيت ليلتي وأنا أتساءل هل حقاً سيفعلونها؟ التشويش النفسي الذي يصيب المعتقل بعد الخضوع لتعذيب شديد، لا يكتفي بإفقاد السجين تماسكه ورباطة جأشه، وإنما يُذهِبُ معه كل منطق سليم في المحاكمة العقلية، لذا انتظرت أربعاً وعشرين ساعة حتى تأكدت أن الأمر ليس أكثر من محاولة تطبيق ضغط إضافي عليّ.

قبل أيام قليلة عادت زوجة المواطن العراقي علي كاظم حميدان من موتها حرقاً في شهر أبريل/نيسان الماضي. أحرقت المرأة، ورميت جثتها في أحد أنهار المنطقة على يد الزوج، كما هو مثبت في ضبط التحقيق لدى قوى الأمن العراقية في محافظة بابل. سريعاً سرت الفضيحة في وسائل الإعلام المحلّية وفي المحيط الإقليمي. فكيف لامرأة اعترف زوجها بقتلها ومثّل جريمته في مكان وقوعها، ثم تمّ بث اعترافاته على الشاشات أن تعود للحياة؟ سيتبين لاحقاً أن الرجل تعرض لتعذيب شديد وطويل، ووافق على التوقيع على أي اعتراف مقابل وقف التعذيب، فالاعتراف في حالته كان نجاة من جحيم آنيّ، أما العقوبة المترتبة على ذاك الاعتراف فهي تأتي تالياً، وغالباً ما يكون الخلاص الآني من التعذيب، هو الأهم. سيخبر حميدان الإعلامي الذي جاء لتسجيل اعترافاته ببراءته، لكن وبدلاً من العمل على تبيان الحقيقة، مدفوعاً بحسّه الصحفي، فإن ردّ الإعلامي على الرجل كان مزيداً من الكلمات السيئة والبذيئة، بحسب وسائل إعلام محلية! بعدها سوف يخبر القاضي أنه بريء وقد انتزعت اعترافاته تحت التعذيب، سيتجاوب القاضي ويأمر بإجراء كشف طبي. لكن ضباط التحقيق لم يسمحوا بإجراء الكشف إلا بعد مرور أكثر من شهر وزوال الآثار، لتتوصل اللجنة الطبية إلى نفي الادعاء بتعرضه للتعذيب.

هل بدت لكم الحادثة غريبة؟ عالمياً نعم هي كذلك، ولكن في بلداننا هي مجرد حدث روتيني يجري كل يوم. العنصر الوحيد الغريب في هذه الحادثة أنها وصلت للإعلام، وهذا نسبياً يحسب للعراق اليوم، ففي سوريا جرت آلاف الحوادث، وهي أكثر درامية وكانت لها نتائج كارثية على حياة أبطالها، لكن نادراً ما انتشر شيء منها.

انتزاع الاعترافات الصحيحة أو غير الصحيحة تحت التعذيب جزء من ثقافة أجهزة أمن المنطقة وفولكلورها، وتحديداً في سوريا. هنا سيبدو الأمر عملاً روتينياً إن كان للموقوفين الجنائيين أم للمعتقلين السياسيين. عام 1987 وبينما كنت أخضع للتعذيب في فرع الأمن العسكري بحمص، كان في الغرفة المجاورة مهرّب إطارات دراجات هوائية يخضع للتعذيب أيضاً، وإن بطريقة أخف. أمام قاضي التحقيق في محكمة أمن الدولة العليا عام 1992 أفاد معظم الأصدقاء، وأنا منهم، أن اعترافاتهم انتزعت تحت التعذيب، وكان التعليق الموحد للقاضي بأن المهم هل هي صحيحة أم لا. بالنسبة للقاضي كان التعذيب جزءاً طبيعياً من التحقيق، فلم يتوقف عنده.

في صيدنايا كان هناك سجينان متهمان بمحاولة اغتيال عبد الحليم خدام وزير الخارجية السوري عام 1976. الاثنان لم يكن لهما أية علاقة لا من قريب ولا من بعيد بالحادثة. لسبب نجهله، ربما كان ادّعاء ضباط المخابرات تحقيقهم النجاح بكشف الفاعلين، أو تحويل التهمة عن الفاعلين الحقيقيين، تم تهديد الاثنين بالإعدام إن لم يعترفا بالمشاركة، وتم تسجيل اعترافاتهما أمام الكاميرا. غالباً ستعني الاعترافات التي تبثها السلطات على الشاشة أن هناك تلفيقاً ما، يُراد بواسطته خلق حقائق هي زائفة أصلاً، أو توجيه رسالة ما وإيصالها لجهة محددة. لشدة بساطته، وعدم قدرته على ترداد ما لُقِن له، لم تنجح عملية تسجيل اعترافات “أبو حلب”، وهذا اسمه المتداول في السجن، فلم يبث اعترافه. بينما تم بث اعتراف “أبو سمير”، رغم أن الرجل عُرض على زوجة خدام، وأكدت أنه لم يكن من بين المهاجمين لزوجها، حيث كانت معه.

ليس لدينا نحن السوريين مرجعية في التاريخ لنقيس عليها حالة نظام الأسد، فهو نموذج متطرف في الإيغال بالجريمة، في السجون وخارجها

أحد ما عرض على أبو حلب العامل معاون “باص سكانيا” للسفريات بين حلب ودمشق، مبلغاً معقولاً مقابل نقل قطعة أثاث في الباص من حلب إلى عنوان بيت محدد في دمشق. كان هدف الرجل المجهول معرفة إن كانت المخابرات قد توصلت إلى هذا البيت. عندما طرق أبو حلب الباب في دمشق، فتح له عناصر المخابرات باب الشقة، ومع الباب، انفتحت على الرجل الأمّي البسيط، أبواب جهنم. كانوا يعلمون تماماً أن لا علاقة له بالأمر، ومع ذلك تم إرساله إلى سجن تدمر، حيث لا يخرج الداخلون إلى هناك إلا بأمر شخصي من حافظ الأسد. شهد أبو حلب مجزرة سجن تدمر الشهيرة، وكان واحداً من الناجين القلائل منها، لينتقل بعدها بسنوات إلى صيدنايا، ويخرج من هناك تقريباً فاقداً لقواه العقلية، بعد قضاء قرابة ست عشرة سنة في الحجز. أما أبو سمير فقد قضى إحدى وعشرين سنة، سيتلقى أول زيارة من عائلته بعد مرور خمسة عشر عاماً، وسيخاطب زوجته على شباك الزيارة، معتقداً أنها حماته. قصة هذين الرجلين واحدة من مئات القصص التي تُروى، غالباً على نحو كوميدي أسود، في السجون السورية.

ليس لدينا نحن السوريين مرجعية في التاريخ لنقيس عليها حالة نظام الأسد، فهو نموذج متطرف في الإيغال بالجريمة، في السجون وخارجها. أحد الأصدقاء، ولم يكن له أي انتماء حزبيّ، اضطر تحت التعذيب الشديد، للاعتراف بأنه منتم لخلايا متعددة في الحزب المعتقل على اسمه، وسوف يعدد أسماء رفاقه في تلك الخلايا. كان من بين هؤلاء الرفاق فرّان الحارة، والجار بائع الخضار. سيذكر قاضي محكمة أمن الدولة الشهير فايز النوري لأحد الأصدقاء أمام قوس المحكمة أنه اعترف بالتحقيق بأمر ما. كان جواب الصديق: “تحت التعذيب، لو اتهموني بأني أنا من فجّر طائرة “لوكربي” لكنت اعترفت، رغم أن حادثة التفجير وقعت وأنا في السجن”.

في كل مرحلة، حين نتحدث كسوريين عن مستوى الانحطاط والقبح والإجرام في سلوك نظام الأسد، بمرحلتيه، تعود تلك المافيا لتكشف لنا خواء خيالنا عن الإحاطة بمفهوم الشرّ. رغم كل حكايات الطفولة التي سمعناها من الأمهات والجدّات عن نذالات الشرير. وكأن نظام الأسد في كل مرّة يقول لنا: هل تسمّون هذه سفالة؟ يا لسذاجتكم. لم تروا شيئاً بعد.

تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

درعا.. اعتقالات وسرقات واستهداف حواجز لـ”النظام”

Hasan Kurdi

الظروف الاقتصادية تدفع بكثير من سكان دمشق وريفها إلى أدوية الاكتئاب

Hasan Kurdi

شهيد طفل بقصف مدفعي للنظام على بلدة كفرومة بإدلب

Hasan Kurdi

“الأمل في رمضان” مشروع يخفف معاناة النازحين السوريين

Hasan Kurdi

عندما سقطت طائرة حربية في سوق أريحا وقتلت 44 شخصًا

Hasan Kurdi

مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سوريا نظام الأسد غيّب 49 طفلاً فلسطينياً في سوريا

Hasan Kurdi