اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة، يوم 21 من آب، يوماً دولياً لإحياء ذكرى ضحايا الإرهاب وإجلالهم، لتكريم ودعم من قضى منهم ومن نجا، مع تعزيز وحماية الناجين وما لهم من حقوق الإنسان وحريات أساسية، لكن في سوريا اختلت تعريفات الإرهاب والوسائل الدولية للتصدي له، مع بقاء أكبر مرتكبي الأفعال الإرهابية مرحباً به في الأروقة الدولية وعلى رأس النظام الذي لم يفقده العالم شرعيته سوى بالاسم.
وتعريف الإرهاب – وفق الأمم المتحدة – هو أفعال العنف التي تستهدف المدنيين في ملاحقة الأهداف السياسية والأيديولوجية، ووفق الولايات المتحدة – التي رفعت شعار محاربة الإرهاب منذ عقود – فإنّ تعريف الإرهاب هو الأفعال الإجرامية والعنيفة المرتكبة من قبل أفراد أو جماعات مرتبطة بأهداف أيديولوجية، مثل الأهداف السياسية والدينية والاجتماعية والعرقية أو البيئية، لكن ما نراه على أرض الواقع أن التصنيفات الإرهابية لا تحدد وفق الأفعال الإجرامية وإنما تختص بالجماعات التي تحمل فكراً إسلامياً متطرفاً، مع الاستمرار بالتعامل والتفاوض مع الكيانات التي ترتكب أكبر الجرائم دون محاسبة.
الإرهاب في سوريا
استخدم النظام السوري مصطلح الإرهاب بطريقة خاصة، معتبراً كل المتظاهرين السلميين الذين خرجوا للمطالبة بالإصلاح عام 2011 “إرهابيين”، ومصدراً قانون “مكافحة الإرهاب”، في 2 تموز 2012، ثم مصدقاً بعد أيام على القانون رقم 22 لإنشاء “محكمة مكافحة الإرهاب”، ليشرعن كل أفعاله الإجرامية بحق الشعب، من الإخفاء القسري والاعتقال التعسفي والمداهمات والقصف واستخدام الأسلحة المحرمة دولياً.
منذ عام 2011 كانت قوات النظام مسؤولة عن مقتل نحو 200 ألف شخص، بينهم نحو 23 ألف طفل، تلتها القوات الروسية بقتلها نحو سبعة آلاف، ما يزيد على ألفين منهم من الأطفال، في حين يبلغ عدد ضحايا تنظيم “الدولة” خمسة آلاف، بحسب إحصائيات “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”.
النظام السوري كان مسؤولاً أيضاً عن 84.8% من حالات الاختفاء القسري المسجلة في سوريا، منذ آذار عام 2011 حتى حزيران من عام 2021، وعن 87.7% من حالات الاعتقال التعسفي، وهو المسؤول عن 98.6% من حالات القتل تحت التعذيب الموثقة في سوريا.
تعرض علي الشمالي للاعتقال وهو طالب في جامعة دمشق، نهاية كانون الثاني 2013، بتهمة التنسيق والتحريض على المظاهرات والتعامل مع جهات وقنوات خارجية، مثل قناتي الجزيرة والعربية، ليستحق إثرها عامين من التعذيب والتنقل بين الفروع الأمنية، وقال لتلفزيون سوريا “كل ذنبي أنني هتفت حرية، وكل ذنبي أنني أردت التحرر من نظام فاسد، قائم على العنف والقتل وإسكات الأفواه، كل ذنبي أنني فزعت لأهل بلدي وناديت حرية وناديت الموت ولا المذلة وناديت يا درعا الشام معاكي للموت، هذه الهتافات كانت ذنبي الوحيد لأنها كانت تزلزل عرش الظالم”.
ما زال الشاب يستذكر رائحة الجثث والدم والموت التي لم تفارق أنفاسه طوال فترة الاعتقال في الغرفة التي لا تتجاوز مساحتها 20 متراً مربعاً، وتضم 82 شخصاً، لا يجدون مكاناً للجلوس أو الاستلقاء ولكنهم يتابعون أنواع التعذيب الوحشية التي يبتكرها السجانون، والتي بقيت ندبها واضحة على ظهر وكتفي علي بعد أكثر من ستة أعوام ونصف على خروجه من المعتقل، حسبما قال متابعاً أن النظام برأيه أطلق تسمية الإرهابيين على معتقليه لقتلهم دون المساس بشرعيته.
التوثيق يكشف الحقيقة
استنكر الموثق والناشط الصحفي محمد بدر عيد تسمية “الإرهاب” التي يطلقها النظام السوري على خصومه، مشيراً إلى أن معظم القتلى والضحايا الذين وقعوا بضرباته الكيماوية، كانوا من الأطفال والنساء، وقال لتلفزيون سوريا “لم نعرف سوى أن هذا النظام نظام مجرم وخطير، حارب شعبه وقتله وهجره من أجل البقاء في السلطة وحكم سوريا على دماء شعبها الحر”.
وثّق محمد في مدينته زملكا بغوطة دمشق الشرقية، مجازر متعددة خلال سنوات الحصار، يذكر منها التفجير الذي استهدف قافلة للمشيعين لشخص قتله النظام قنصاً في أحد الشوارع، ليقع ضحية التفجير المئات، كان بينهم والده الذي نزف ومات بين يديه “فقط لأنه خرج ضد هذا النظام المجرم بتشييع شهيد سلمياً”.
لا يعتقد محمد أن النظام قادر على الإفلات من مسؤوليته عما فعل، لأن الشعب لن ينسى، والأدلة كثيرة ولا تعد، وسيقود العمل على الملفات القضائية بالمحاكم الدولية والبرامج التي تختص بتوثيق حالات القتل والاعتقال بضمان حق الضحايا.
الدكتور سليم نمور – مؤسس مشفى “الكهف” ورئيس المكتب الطبي الموحد في الغوطة سابقاً والذي كان من الشهود على مجزرة الكيماوي التي وقعت في الغوطة الشرقية عام 2013 – يرى أن السوريين تجاوزوا مرحلة إثبات جرائم النظام وإرهابه، بل إن إحياء ذكرى المجازر هدفه حفظ حقوق الضحايا ولتذكير العالم بمسؤولياته القانونية والأخلاقية تجاه السوريين.
كان يوم 21 آب “أشبه بيوم القيامة”، بحسب وصف الطبيب، “كان يوماً مرعباً حزيناً قاسياً على الجميع.. مشاهد الاختناق الجماعي والهذيان والاختلاج والسبات والموت.. كوادر طبية ومسعفون يتراكضون في كل الاتجاهات ولا يمتلكون اللباس الواقي من الكيماوي وأصيب العشرات منهم بالاختناق بما حملته أجسام الضحايا من السارين.. لك أن تتخيل مئات الجثث مصفوفة أمامك وهي تغط في موت عميق.. لك أن تتخيل حال جثث الشهداء في أثناء حر شهر آب مع انعدام الكهرباء والتبريد.. لك أن تتخيل حرقة الناجين خلال بحثهم عن ضحاياهم في مشفىً هنا أو مقبرة هناك.. لك أن تتخيل أن تدفن 1500 شهيد في يوم واحد.. ولك أن تتخيل بعد ذلك كله ألم الإحباط والخذلان من العالم عندما سقطت خطوطه الحمراء وتمت مقايضة تسليم سلاح الجريمة بالإفلات من العقاب”.
قتل النظام خلال أكبر هجوم بالسلاح الكيماوي ما يزيد على 1500 شخص، مع إصابة نحو 11080 آخرين، وفقاً لإحصائيات “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، التي وثقت 222 هجوماً كيماوياً في سوريا خلال الأعوام العشر الماضية، كان النظام السوري مسؤولاً عن قرابة 98% منها.
تحذير أوباما – الرئيس الأميركي السابق – للأسد من استخدام الكيماوي، والذي يعود إلى 24 تموز 2012، وثم رسمه للخط الأحمر في 20 آب 2012، تلاشى بعد عام، واستبدل بانضمام النظام السوري بعد أيام إلى منظمة حظر الأسلحة الكيماوية، مدعياً الالتزام بقرارتها الخاصة بتدمير ترسانته الكيماوية، وبعد أن تتالت الهجمات الكيماوية مجدداً اكتفت الأمم المتحدة بتحميل مسؤولية النظام عن أربع منها، بتقريرين صدرا في نيسان 2020 ونيسان 2021 لتصدر بعدها قراراً بتعليق بعض حقوق وامتيازات سوريا كدولة عضو في منظمة حظر الأسلحة الكيماوية.
خلل في الموازين الدولية
لاحق مسمى الإرهاب النظام السوري منذ أن أنشأت الولايات المتحدة لائحة الدول الداعمة للإرهاب، في 29 كانون الأول 1979، والتي بقيت سوريا البلد الوحيد ضمنها منذ البداية حتى الآن، ولأن ذاك التصنيف اختص بالموقف المعادي المعلن من إسرائيل في المقام الأول، حمله النظام بفخر واستخدمه لدعم صورته كمقاوم للاحتلال والاستعمار، متنصلاً في أيار 2011، مما قاله رجل الأعمال رامي مخلوف في مقابلة مع “نيويورك تايمز” عن أن أمن إسرائيل مرتبط ببقاء النظام السوري، واصفاً مخلوف بالمواطن الذي لا يملك أهلية الحديث الرسمي.
لكن تصنيف الدولة كراعية للإرهاب، لم يعن اتخاذ ما يزيد عن إجراءات العقوبات الاقتصادية تجاهها، في حين عنى تصنيف “جبهة النصرة” كجماعة إرهابية من قبل الولايات المتحدة، بعد أقل من عام على الإعلان عن تأسيسها، وتصنيف تنظيم “الدولة”، إطلاق حملات عسكرية تسببت بدورها بمقتل الآلاف، لوقف “الإرهاب” الذي تمارسه هذه الجماعات بحق المدنيين.
اكتفت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا والاتحاد الأوروبي بمطالبة الأسد بالتنحي، في 18 آب 2011، بعد وقوع آلاف القتلى خلال ستة أشهر من الاحتجاجات، وكان الموقف الأقسى الذي اتخذته تلك الدول هو طرد السفراء السوريين من عواصمها إثر مجزرة الحولة في ريف حمص والتي قتل خلالها 108 أشخاص – بينهم 49 طفلاً – ذبحاً بالسلاح الأبيض، في 25 أيار 2012.
تميز الأمم المتحدة في اليوم العالمي لضحايا الإرهاب، أن الضحايا غالباً ما يشعرون بالنسيان والإهمال بمجرد تلاشي التأثر الفوري للهجمات الإرهابية، في حين يحتاجون لعمليات إعادة تأهيل وإدماج لإتمام التعافي والشفاء والعيش بكرامة، لكن فيما يخص الحالة السورية لم تتخذ خطوات جدية بعد لوقف الأعمال الإرهابية وازدياد عدد الضحايا خلال السنوات العشر الماضية.
برأي مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” فضل عبد الغني، فإن ما على السوريين فعله هو تغيير وتأسيس المفاهيم الناظمة لتعريف الإرهاب ومحاسبة مرتكبيه، “الإرهاب هو نشر حالة من الذعر والخوف بين صفوف المجتمع، وهذا ما قام به النظام السوري، إذ إنه بقيامه بتشريد الناس ونهب ممتلكاتهم أصبح أقرب إلى مافيا من كونه حكومة ويدير دولة، ومختلف أشكال الانتهاكات التي يرتكبها تحمل بعداً إرهابياً، مثل القتل والاعتقال والتعذيب والعنف الجنسي وقصف الأطفال والتشريد القسري”، حسبما قال لتلفزيون سوريا.
حجم الانتهاكات التي يرتكبها النظام السوري تفوق ما قد يصنف تحت “عنف الدولة” بأضعاف مضاعفة، وفق تقييم “عبد الغني”، الذي اعتبر النظام السوري متفوقاً بإرهابه على أي من الديكتاتوريات والأنظمة القمعية الموجودة في الشرق الأوسط.
تلفزيون سوريا